علمت هذا الشهر أن والدتي قد صارت متابعة متحمسة لنظريات المؤامرة الصادرة عن اليمين المتطرف، حيث تتابع سراً حركة "كيو" (كيو أنون)، ومشتركة في "بارلر" Parler (خدمة شبكات تواصل اجتماعي بديلة عن "تويتر" يستخدمها كثير من المتطرفين، أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب)، كما أنها باتت مقتنعة بأن أعمال الشغب التي استهدفت مبنى الكابيتول في 6 يناير (كانون الثاني) قد جرت بقيادة عملاء سريين من منظمة "أنتيفا" اليسارية.
أنا مندهشة أنها استطاعت أن تخفي هذه الأفكار المتطرفة عني كل هذه المدة الطويلة؛ وأود أن أفكر أنها تكتمت على هذه الآراء لأنها تشعر بالخجل منها، لكن من المرجح أكثر من ذلك أنها كانت تدرك كيف سيكون رد فعلنا أنا وأخي، ولذا أرادت أن تتجنب المواجهة معنا، وخصوصاً بالنظر إلى طبيعة نشأتنا. وحتى الآن، أجد صعوبة في فهم كيف أن امرأة ربّتنا في أماكن لا تصل إليها الكهرباء، وكانت ممن يعتنقون قيم الهيبين اليسارية، أمست حالياً من أنصار ترمب ومتابعة متحمسة لنظريات المؤامرة.
أنا أتيت من مكان مجهول. قضيت الشطر الأكبر من طفولتي في البرية، حيث يخيم صمت مطبق فلا تكاد تسمع سوى عواء الذئاب البرية بين الفينة والأخرى، وحيث تألقت النجوم بشدة لعدم وجود ضوء آخر ينافسها على تبديد الظلمة الدامسة. في فصل الشتاء، كان السكون يبدو أضخم مما هو عليه فعلاً بسبب البرد، فيما كانت الأشجار التي اكتست بحلة من الثلج توفر فضاءً أبيض منبسطاً يكاد لا ينتهي على مد النظر. وعندما كانت درجات الحرارة تبدأ بالارتفاع، كنا نعمد إلى ثقب جذوع الأشجار، وإلى غلي دلاء من عصارة النسغ sap - التي نحصل عليها من تلك الثقوب - على النار، من دون توقف، فوق موقد خشبي كان في الخارج، وذلك كي نصنع شراب "القيقب" maple syrup. ولما لم يكن لدينا جهاز تلفزيوني، كان الكتاب صديقي الوحيد. ومثل لورا إنغالز وايلدر، كنت أسكب الشراب في الثلج لأصنع الحلوى.
أنا نتاج تجربة هيبية فاشلة. فوالداي اللذان تابعا دراستهما الجامعية في شبابهما، بدآ تدريجياً يتجهان شرقاً عن طريق "الأوتو ستوب" (طلب التوصيل) في أعقاب تخرجهما، رافضين خلفيتهما كابني عائلتين من الطبقة المتوسطة في كاليفورنيا. هكذا حمل كل منهما حقيبة ظهر وأتى بكلبه، ثم انطلقا على غير هدى، ليطوفا ببساطة هنا وهناك قبل أن يحط بهما الرحال في مكان ما، كما لو كانا ورقتي شجر في مهب الريح. وحين حالفهما الحظ، وجدا من يعرض عليهما مكاناً للإقامة. وخلاف ذلك، جربا العيش على قارعة الطريق، بما فيه النوم على أحد جانبيه.
وحين كانا في أريزونا، بحثاً عن البقاع الخضراء على الخرائط للتوجه إليها، وانتهى الأمر بهما إلى نوع من الضياع في جبال روكي. لم يكن لديهما كثير من المؤن الغذائية، وحاولا "إسكات" جوعهما بوجبات من الذرة المهروسة، في حين تغذى الكلبان اللذان كانا يعانيان المجاعة على فئران الحقول. وحين شعر والداي بالضعف وأصابهما الغثيان الذي يسببه الارتفاع (الجبال)، شقا طريقهما إلى أسفل الجبل متجهين مباشرة إلى مجموعة من خطوط السكك الحديدية التي قادتهما إلى سيلفرتون، كولورادو. وقد لقيا على الفور الترحيب من زوجين بدا أنهما كانا من أصحاب العقلية نفسها، وعرضا عليهما الإقامة في المكان الذي كانا يعيشان فيه بشكل عشوائي، فأقاما في مقطورة هناك، ثم ما لبثا أن تعرضا للطرد منها في منتصف الليل من قبل أصحابها ـ رعاة البقر.
وبعد الإقامة في مبنى طاحونة مهجور، قرر والداي أن يجربا سيلفرتون. وإذ عملت والدتي في مطعم محلي، قام والدي بأعمال صغيرة عشوائية في المطحنة المحلية، ثم حصل على وظيفة "الشخص المسؤول عن معايرة الذهب" لدى راعي بقر محلي، بالإضافة إلى حصوله على كوخ، كان سعيداً باستئجاره. وعن هذه الوظيفة، قال والدي إنه كان بمقدوره الاحتفاظ بها، لأنه لم يكن مهتماً بالماديات. وأذهل ذلك عمال المناجم ورعاة البقر، الذين كانوا جميعاً يحاولون جني الأرباح بشكل سريع. وطبقاً لوالدي، فقد اعتبر من العمال القلائل الذين يمكن ائتمانهم على الذهب.
كان والدي يعاني اضطراب ثنائي القطب (اضطراب نفسي يسبب نوبات كآبة ونوبات هوس ونشاط)، وهي حالة مرضية لم يجرِ تشخيصها عنده حتى صرت في الجامعة. وفي خضم إحدى فترات الاكتئاب التي عاناها، ولم أكن بعد قد بلغت الثالثة من العمر، رسم صورة كانت النقطة المحورية فيها عبارة عن ضوء يتدفق من خلال الباب فيما كان يجلس هو في الظلام. وفهم من ذلك أن الوقت قد حان كي يمضي قدماً، فرفع إبهامه وراح وحيداً برفقة كلبه (المسمى) باكييف فقط، للبحث عن ذلك الضوء. وسرعان ما وجد من يأخذه في رحلة حملته مباشرة إلى ريف ولاية مين Maine، وكان ذلك بالنسبة له إشارة على أنه من المفروض بنا جميعاً أن ننتقل إلى هناك.
وحين سمعه صاحب نزل هناك يتحدث عن رغبته بالعيش في تلك المنطقة، أشار عليه بالذهاب إلى قريب له كان يبيع عقاراً. وتلك كانت إشارة أخرى أيضاً. وفي وقت قصير، فاوض الوالد صاحب العقار على خطة لدفع 13 ألف دولار ثمناً لأرض تبلغ مساحتها 40 هكتاراً تشتمل على حظيرة كبيرة وبيت ريفي يفتقر إلى التمديدات الصحية والماء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان البيت في الأصل يضم غرفة واحدة بُنيت في العقد الأول من القرن التاسع عشر. وكانت الدعامات والعوارض تحمل علامات واضحة لفأس محفورة عليها فهي كلها قد قطعت من الغابة الموجودة في العقار نفسه. ومع مرور الزمن بنينا غرفاً أخرى وطابقاً ثانياً أيضاً. ونظراً إلى أن المصدر الوحيد للحرارة كان موقداً خشبياً، فإن الدفء القليل انحصر بجزء صغير من البيت في فصل الشتاء. وفي الليل كنا نعمد إلى تغطية أنفسنا بأكبر عدد ممكن من البطانيات.
وسعينا جاهدين إلى الاعتماد على ما كانت الأرض تمدنا به، غير أن والداي لم يكونا ماهرين في استغلال الأرض. وكان حليب الماعز غير المعقم يخزن خارج البراد في عبوات أسطوانية مكللاً بإنش من الدهن. أما الفاصولياء الخضراء فكانت من الخضراوات الوحيدة التي تعلمت والدتي كيف تعلبها. والغريب في الأمر أن أحداً لم يمت بسبب التسمم الغذائي، على الرغم من الغياب التام للتعقيم. فالفاصولياء التي كنا نأكل كانت قد فقدت كل شكلها وتحولت ببساطة إلى مادة جلاتينية.
وكان الوقت المفضل بالنسبة لنا نحن الأطفال، هو مواسم إنجاب الحيوانات في الربيع. وأحببنا بصورة خاصة الماعز، ودأبنا على إطلاق الأسماء نفسها على حيوانات الماعز الجديدة في كل عام: جورج، وجورجيت، وجوزيف، وجوزفين. وكانت الحيوانات الصغيرة تقضي أيامها الأولى دائماً في صندوق خشبي في بيتنا. وكانت هذه الحيوانات الأليفة نفسها تختفي ثم تظهر من جديد في الثلاجة وهي ملفوفة بورق أبيض جاء من عند الجزار، وكانوا يقولون لنا إنه "لحم غامض". وحين تمكنت من فهم الأمر، أقسمت أن أتبع نظاماً غذائياً نباتياً فلا أتناول اللحم طيلة حياتي.
عاشت والدتي في عالمها الخاص وكانت إلى حد كبير غائبة عن عالم أطفالها. فخلال الصيف كانت تتجول على مدى ساعات في أنحاء البيت والأرض المحيطة به، باحثة عن الزهور التي كانت قد زرعتها في الشتاء. أما في فصل الشتاء، فكانت تقرأ بلا توقف وهي مستلقية في الغرفة الرئيسة ذات الإضاءة الخافتة. وكانت تصبح نشطة من جديد فحسب حين يعود والدنا إلى البيت، فهي كانت تخصه وحده بكل اهتمامها وعاطفتها. وبدأنا نحن الأطفال نعتني بأنفسنا عندما كان الأمر يتعلق بالوجبات الغذائية، وكنا نتغذى على الجبن، التي تقدمها الحكومة، وكميات كبيرة من المعكرونة، والجبنة البرتقالية الفوسفورية المعبأة في صناديق، ثمن كل عشر قطع منها دولار واحد، وخبز المتجر الاقتصادي، وزبدة الفستق، علاوة على المنتجات التي تم التخلص منها والقيت على رصيف التحميل في الجزء الخلفي من محل بائع الخضراوات.
في غضون ذلك، جهدت لخلق النظام واتباع قواعد النظافة في عالم فوضوي وقذر للغاية. فحين كنت لا أزال في سن الثامنة، وضعت قائمة من القواعد التي كتبتها على ورقة مذيلة بتوقيع "الإدارة"، وألصقتها بالبراد. كان والدي راوي حكايات رائعاً، وخصوصاً حين كان يمر في مرحلة الهوس (من مرضه اضطراب ثنائي القطب)، ولطالما استمتع بالضحك على قصصه هو بقدر ما كان يضحك على قصص شخص آخر. لا داعي للقول إن أحداً لم يتبع القواعد التي وضعتها أنا وتحول هذا الأمر ببساطة إلى إحدى القصص التي يحكيها والدي. ومن جانبي، ازددت تمرداً في سياق رد فعلي على ذلك، فارتديت بزة خاصة بعيد الفصح كانت جدتي قد أرسلتها، معلنة أنني سأكون محامية. وبدأت أوقع على كل المراسلات في المنزل باسمي الكامل دون جي. بوست.
ليس هناك ما يدعو إلى الاستغراب في أن والديّ كانا ليبراليين، لذلك فوجئت بشكل كبير حين أبلغني أخي أن والدي صار في سنواته القليلة الأخيرة من محبي برنامج "فوكس أند فريندز" (برنامج إخباري وحواري صباحي تبثه شبكة "فوكس نيوز" المحافظة). هل فعل والدي ذلك حقاً؟ وهو الشخص الذي عرفني على ديف ليبارد (فرقة روك إنجليزية معروفة بأعمالها الموسيقية الصاخبة من نمط هيفي ميتال الجديد) وكين كيسي (الروائي والكاتب الأميركي الهيبي المؤيد لحركة الثقافة المضادة)؟ والذي أخذنا إلى حلقات رقص كونترا الشعبي الذي يتصبب ممارسوه عرقاً، وذلك حين كنا صغاراً، وفي وقت لم نكن فيه قد صرنا بعمر يسمح لنا بالمشاركة في حفلات رقص ريغي في قاعات مليئة بدخان السجائر؟ وهو من أخذ مجموعة الشباب من كنيستنا التوحيدية العالمية إلى مؤسسات دينية أخرى مثل الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية وكنيس يهودي وحتى إلى تلك المسماة بالكنيسة الروحانية، حيث تعرفنا على ملائكتنا الحارسة؟ بدا أن ذلك التحول لا يعقل، لكن كيف لي أن أعرف ونحن لم نعد نتحدث مع بعضنا بعضاً منذ تجادلنا في شأن ما إذا كان ينبغي عليه استئناف تناول الدواء، وقال لي إنه ليس باستطاعتي أن أفهم الأمرلأنني كنت محبوسة ضمن حدود عقلي.
وبطبيعة الحال كانت والدتي إلى جانبه دوماً، تصغي إليه وتعرب في النهاية عن اتفاقها معه في الرأي، سواء غنّى أو ألقى موعظة حول آخر هواجسه. وفي وقت لاحق، عمدت ببساطة إلى تكرار ما كان يقوله. هكذا كانت مؤمنة بشخص واحد.
توفي والدي عام 2015، ولم أتحدث حقاً بالسياسة مع والدتي بعد ذلك. وافترضت أنها كانت تتمتع بعقلها وتحمل آراءها الخاصة بها، إلى درجة أنها قادرة على النأي بنفسها عن مرحلة الهوس الأخيرة التي مر بها والدي. مع ذلك، بدأنا ندرك جميعاً، بعد انتخابات عام 2016، ومن خلال ملاحظاتها العابرة، أنها قد صوتت لصالح ترمب. وسرعان ما باتت لا تطيق الابتعاد عن البرامج الإذاعية والتلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي ذات التوجه اليميني.
اعتقدت أن محاولة الانقلاب تلك قد تعيدها إلى الواقع من جديد، بيد أن ذلك لم يحدث. فهي ببساطة تستشهد حالياً بما كانت تشاهده في سياق العزلة، التي فرضتها الجائحة، من خطاب ونظريات مؤامرة يضخها الجناح اليميني باستمرار وتشتمل على مزاعم من قبيل: لقد سرقت الانتخابات، وكان ناشطو "أنتيفا" في مبنى الكابيتول، وكانت القضايا التي رفعها ترمب أمام المحكمة (للطعن بنتائج الانتخابات) سليمة. ولما سألتها لماذا لا يمكنها أن تصدق ما أقوله، أنا ابنتها المحامية، حول مدى سلامة هذه القضايا من الناحية القانونية، اكتفت ببساطة بهز كتفيها.
وأخذت أجادلها منذ ذلك الوقت كيف أننا أصبحنا حالياً عرضة لخطر الإرهابيين المحليين أكثر من أي وقت مضى. وحذرت في إحدى محادثتي معها أن من المرجح أن نشهد تفجيراً مماثلاً للذي وقع في أوكلاهوما سيتي قبل سنوات. سألتها "كيف ستشعرين في حال استهدافي بحكم مهنتي، كمحامية ليبرالية، أو بسبب موقع عملي، فأنا أعيش الآن وأعمل في نيويورك سيتي؟". فردت رداً بسيطاً، لكنه كان مدمراً أيضاً، قائلة "حسناً، إن نيويورك مكان خطير على أي حال".
أشعر غريزياً أنها تستحق المقاطعة. أما أخي، فتقول له غريزته إن من الأفضل محاولة إعادتها إلى الوضع الطبيعي بسلاسة. وكل ما يمكنني التفكير فيه حيال ذلك هو التساؤل: أين سارت الأمور كلها بشكل خاطئ؟ لقد خلصت إلى إدراك النتيجة المحزنة، وهي أن والدتي لم تخرج حقاً على الإطلاق من تحت جناح أبي. وتستمر من خلالها، نتائج مرحلة الهوس المفرط الأخيرة التي عاشها. وإذ لا تقوى على الابتعاد عن "فيسبوك"، فهي تمضي أيامها في محاولة استيعاب أشرطة الفيديو، والمقالات، والتعليقات الصادرة عن الملقبين بالوطنيين. وتحولت من امرأة تؤمن وحدها بشخص واحد (زوجها) إلى واحدة من مؤمنين كثيرين بشخص آخر، وليس بوسعي أن أشعر بخوف أكبر منها.
© The Independent