تساءل باحث إنجليزي في مقال له قبل فترة: ما سرّ هذا الرجل الذي في كلّ مرة نعتقده اختفى وانتهى إلى الأبد، تتراكم الأحداث والظروف لتجعل من وجوده أمراً ضرورياً؟ ومن يتحدث عنه الباحث هنا ليس كارل ماركس ولا ونستون تشرشل بل فقط جون ماينارد كينز الذي يقلّ شهرة عن هذين الاثنين، لكن ثمة لحظات في تاريخ القرن الـ20 تبعث به إلى الواجهة جاعلة كثيرين يتحسرون ليس فقط على غيابه منذ عقود طويلة، بل كذلك على أنه راح من دون أن يترك خلفاء حقيقيين يعرفون كيف يتعاملون مع اللحظات الصعبة في التاريخ الحديث، وبالتحديد على الصعيد الاقتصادي.
فكينز الذي تبدت ضرورته بعيد الحرب العالمية الأولى وعلى إثر مؤتمر الصلح، ثم عند اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية على إثر انهيار بورصة نيويورك، ثم أمام صورة الانهيار الأوروبي الشامل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ها هو الآن وفي زمن كورونا والانهيارات الاقتصادية المعمّمة، يبدو ضرورياً أكثر من أي وقت مضى، لكنه هذه المرة لم يعد موجوداً.
ومن هنا، لا يجد المعنيون من ساسة وباحثين مهرباً من التفتيش عن حلول أو بدايات حلول في كتاباته التي لا تزال حاضرة وجاهزة للإجابة على أية أسئلة تُطرح بأكثر مما يمكن لمئات الباحثين وعشرات المؤتمرات أن يفعلوا. في هذه الأيام، وأكثر مما في أي وقت مضى منذ رحيل كينز، تبدو العودة إليه ملحة، خصوصاً أن كل الحلول المطروحة تعيدنا إلى المبدأ الذي حكم منظومته الاقتصادية: تدخلية الدولة وعالمية الحلول، فعلى ضوء الواقع الذي نعيش، وعلى ضوء قراءة مستعادة لكينز، بالكاد تحتاج الى عصرنة أو تعديل، ها هي الدولة كمفهوم وكممارسة تستعيد دورها وأهميتها كدرب خلاص أمام الفاجعة العامة: الفاجعة الصحية والفاجعة الاقتصادية والفاجعة الاجتماعية، بالتالي الفاجعة الأخلاقية.
صاحب الأجوبة الناجعة
ويقيناً أن الظرف العام الذي تعاني منه البشرية جمعاء يبدو اليوم أشد قسوة وإلحاحية وأممية، مما بدت الأمور عليه في اللحظات التاريخية المماثلة السابقة، إذ إن عمومية الحدث وانتشار الفاجعة وغياب منظومات القيم المرجعية الأخلاقية التي شكلت جزءاً أساسياً في الحقب الماضية، كل هذا يتضافر مع غياب المرجعية السياسية التي تجد نفسها في منأى عن الوضع الكارثي، ويوفّر لها الفرصة لرعاية البشرية أو جزء منها، (مشروع مارشال الأميركي لإنقاذ أوروبا بعيد الحرب العالمية الثانية مثلاً)، ومن هنا لا شكّ في أن حلاً ما يمكننا أن نعثر عليه في ثنايا كتابات كينز، بل يمكننا أكثر، إن نحن تفرّسنا في كتاباته التي أعقبت الحربين العالميتين الأولى والثانية خصوصاً، وتلازمت مع النتائج الوخيمة التي نبّه منها في كتابته عن مؤتمر الصلح مثلاً، الذي أدت الخيارات الاقتصادية التي أملاها، إلى الإمعان في إفقار، بالتالي إذلال الشعوب المهزومة من دون أن يقدم شيئاً في المقابل للشعوب "المنتصرة".
ويقودنا هذا بالطبع إلى العودة الحاصلة الآن على أية حال، كحلّ لا بديل عنه، إلى المجالين اللذين كانا أثيرين عند كينز: تدخلية الدولة وشمولية الحلول.
نظرية تدخّل الدولة
فالحال، أن كينز كان قد أسس نظرياته الاقتصادية على أساس تدخل الدولة، لا سيما خلال أزمنة التأزم، وهو ما عبّر عنه، لا سيما في كتابه الأشهر "النظرية العامة للاستخدام، للفائدة وللنقود" (1936)، إذ رأى، على عكس ما كان يفعل الاقتصاديون الكلاسيكيون، أن الاستخدام الكامل للعمال، لا يمكنه أن يكون معطى تلقائياً، مما يجعل تدخل الدولة ضرورياً في الأزمنة الصعبة التي تسفر عادة عن اشتداد البطالة حتى لو أدى ذلك إلى حدوث عجز في الأموال العامة. والحال أن نظرية كينز هذه كانت كما سبق أن قلنا في مجال آخر، الأساس الذي اعتمد عليه فرانكلين روزفلت في الولايات المتحدة حيث صاغ سياسة "الصفقة الجديدة"، كما اعتمدت عليه أوروبا كلها خلال فترة ما بعد الحرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذا ما جعل كينز يعتبر أكثر وأكثر صاحب ثورة في علم الاقتصاد، وجعل نخبة المجتمع البريطاني المتحلّقة من حول "جماعة بلومبسبوري"، الليبرالية اليسارية، تفخر بانتسابه إليها، وكان بيرتراند راسل يقول عنه إنه "الكائن الأكثر ذكاء والأكثر حيوية الذي قيض لي أن أتعرف إليه. أنا عندما أتجادل معه يخامرني شعور بأنني إنما أضع حياتي بين يديّ".
النهوض بعد الكارثة
وإذا كان كينز قد لفت إليه الأنظار بشكل استثنائي خلال مؤتمر الصلح في فرساي حين كان عضواً في الوفد البريطاني، فانسحب إذ وجد أن ما تنصّ عليه الاتفاقيات سوف يدمر أوروبا، لا سيما منه ما يتعلق بالبنود التي ستذل الشعب الألماني، فإن ذلك لم يكن آخر مؤتمر يعلن موقفاً ضده، إذ سنراه يفعل الشيء نفسه بعد ذلك في مؤتمر "بريتون وودز" حين وقف ضد الأميركيين مطالباً بنقود عالمية، بدلاً من الاعتماد على الدولار. ولكن في الحالتين كان كينز خاسراً، وفي الحالتين تبيّن للعالم لاحقاً أنه كان على حق.
صحيح أن كينز عُرف بالعديد من البحوث النظرية القائمة على مفهوم "تدخلية الدولة"، إلا أن ثمة في أعماله، ما يلفت إلى نوع من العولمة المبكرة أعلنها إبان الحرب العالمية الثانية، التي كان الرئيس الأميركي روزفلت من أشدّ المتحمسين لها في ذلك الحين. فعلى الرغم من أن قرقعة السلاح كانت لا تزال سيدة الموقف، وعلى الرغم من أن القتل والدمار كانا لا يزالان سائدين، فإن كينز، مثل غيره من الباحثين والأكاديميين الجادين، كان يعرف أن الحرب، مثل كل حرب، سوف تنتهي عما قريب، وأن عالم ما بعد الحرب سيكون مختلفاً عن عالم ما قبلها، فكما أن تلك الحرب كانت عالمية في ميادينها وفي أهدافها، كان العالم الاقتصادي الإنجليزي الكبير يعلم أن عالم ما بعد الحرب سيكون، بدوره، عالمياً، إن آجلاً أو عاجلاً.
وكان كينز يعرف أن على العلماء أن يعدوا الساحة لاستقبال تلك العالمية، التي ربما كانت أولى ذرائعها ذلك الدمار الشامل الذي أصاب العديد من الأمم، ما ستنتج منه كوارث اقتصادية وبالتالي اجتماعية. لذلك على خطة ما أن تسد الفراغ، وكان كينز يعرف أن تلك الخطة ما كان أبداً في إمكانها أن تكون محلية، بمعنى أن ما من دولة، في أوروبا والعالم القديم على الأقل، سيكون في إمكانها أن تخرج من الحرب إلى عزلة، مزدهرة أو بائسة، فالعالم أضحى من الترابط الاقتصادي والمالي، بشكل خاص، إلى درجة يتعين معها على كل خطة مستقبلية أن تأخذ هذا الأمر في حسبانها.
ولادة صندوق النقد الدولي
وهكذا، كانت حال خطة كينز التي تولت إعلانها الحكومة البريطانية بنفسها في اليوم السابع من أبريل (نيسان) 1943، وكانت تتعلق بالعالم المالي لما بعد الحرب وبقيام منظومة مصرفية عالمية، وبإيجاد سبل للتعاون الاقتصادي بين الأمم، كانت خطة كينز، معقدة ومليئة بالجداول وبالحسابات والمعادلات التقنية، ومع هذا، فإن نقاشاً شاملاً قام من حولها، أما النقطة المركز في خطة كينز، فكانت تقوم على أساس اتحاد نقدي مؤسس على منظومة نقدية مصرفية عالمية، بمعنى أن الأمر يتطلب أن يكون ثمة صندوق للنـقد دولي، قادراً على أن يساعد أية أمة تعيش صعوبات موقتة، لا سيما حين يحدث لعملتها أن تتدهور بفعل ضغوط داخلية أو خارجية. في المقابل، يتعين على تلك الأمة أن تتعهد باتباع سياسات اقتصادية ونقدية هدفها إيجاد التوازن المطلوب.
لتفادي إفلاس الدول
وكان كينز، ومعه الحكومة البريطانية بالطبع، يريان في هذه الخطة، وسيلة لتفادي إفلاس العديد من الأمم بفعل خسائر الحرب، بالتالي وسيلة لتفادي الوقوع في فوضى اجتماعية قاتلة. روزفلت رحب بالخطة، هو الذي كان يتطلع، كما قال، إلى قيام نظام نقدي عالمي جديد، ينقذ الأمم من الإفلاس، شرط ألا يكون وراء قيام ذلك النظام، فعل خير تنفرد الولايات المتحدة بالقيام به. ولسنا بحاجة إلى التذكير، بالطبع، بأن مرحلة ما بعد الحرب شهدت الأمرين: تنفيذ خطة كينز عن طريق قيام صندوق النقد الدولي، و"فعل الخير" الأميركي عن طريق خطة مارشال، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع.