مَن من المشاهدين لا يتذكّر كريستوفر بلامر وهو في منتصف الثلاثينات، وسيمٌ وواثقٌ من ذاته وهو يلعب دور الضابط فون تراب في "صوت الموسيقى" لروبرت وايز إلى جانب جولي أندروز؟ أجيال نشأت على هذا الفيلم وشاهدت هذا الممثّل الكندي الذي توفي قبل أيام عن 91 سنة، قبل أن يصبح نجماً عالمياً نتيجة الانتشار الواسع لـ"صوت الموسيقى" وتحقيقه شعبية غير مسبوقة. هذه المرة ليس وباء كورونا الذي خطف أحد وجوه الشاشة المعروفين دولياً، بل الشيخوخة وتراجع القدرة البدنية التي كان يعاني منها بلامر في الفترة الأخيرة. وكان زاد من حالته سقوطه أرضاً قبل أسبوعين.
يتحدّر بلامر من عائلة معروفة في كندا. جد أمه ثالث رئيس وزراء في تاريخ كندا. ترعرع في كيبيك وتعلّم التحدّث بالإنجليزية والفرنسية بطلاقة. لم يعش طفولة فيها الكثير من البهجة والسعادة، إذ انفصل والداه بعد ولادته بفترة قصيرة، الأمر الذي أرغمه على العيش في بيت أهل أمه. منذ صغره، كانت الثقافة والفنون بكلّ ماضيها وحاضرها موجودة في حياته، فتشبّع بها إلى أقصى حدّ. كانت العائلة تقوم بمطالعة جماعية، الأمر الذي ولّد عنده حبّاً كبيراً للأدب الكلاسيكي. في تلك السنوات، تعرف أيضاً إلى الباليه وبات يرتاد المسارح.
بداياته الأولى في التمثيل واحتكاكه به تعود إلى أواخر الأربعينيات، عندما كان في الثامنة عشرة. وكان شاهد لورانس أوليفييه في فيلم "هنري الخامس" (عن مسرحية شكسبير) ووقع في غرام الدور. في تلك الفترة، انخرط أيضاً في العملين الإذاعي والتلفزيوني. ما إن بلغ العشرينيات، حتى راح يقوم بجولات في العديد من المدن الأميركية من خلال عروض مسرحية متنقّلة. لعب هاملت وريتشارد الثالث وكذلك في مسرحية شكسبيرية أخرجها إيليا كازان، ولاحقاً أطل أيضاً في دور سيرانو دو برجوراك. كان المسرح عشقه الأول وظلّ يعتلي خشبته حتى 2007.
الفرصة الذهبية
في 1958، اقتحم السينما من بابها الواسع، فلعب تحت إدارة المخرج الكبير سيدني لاميت. الفيلم هو "ستايج ستراك"، ويغرم فيه بلامر بفتاة بريئة تدعى إيفا لافلايس، علماً أن البطولة لهنري فوندا والأحداث تدور في الوسط المسرحي. لكن هذه لن تكون انطلاقة بلامر المدوية. فكان يجب انتظار نحو سبع سنوات، تحديداً العام 1965، لتأتيه الفرصة الذهب مع "صوت الموسيقى" حيث لعب دور ضابط نمسوي. الفيلم حكاية معسولة عن فتاة (أندروز) تستعد لدخول الرهبنة، لكن يتغير كلّ شيء عندما يُطلب منها الاهتمام بالأولاد السبعة لرجل أرمل (بلامر). هذه الفتاة الطيبة ستخطف قلوب الأولاد من خلال الموسيقى والأغاني. في نهاية الفيلم، سنراهم يعبرون الجبال إلى سويسرا هرباً من الخطر النازي. الفيلم حقق إيرادات ضخمة حد تحوله ظاهرة! لكن كان للنقد السينمائي رأي آخر: بولين كايل - أشهر ناقدة في أميركا وقتها - وصفته بـ"كذبة مغلفة بالسكر أحبّ الجمهور ابتلاعها". مع الوقت، أُعيد بعض الاعتبار إلى هذا العمل. الألوان الفاقعة والمَشاهد الميوزيكالية، وأشهرها تلك التي تصوّر أندروز في أعلى تلة خضراء، بصوتها الذي يصدح عالياً وذراعيها المشرعين، باتت اليوم "أيقونية".
السبعينيات كانت سنوات التكريس. "صوت الموسيقى" فتح لبلامر الأبواب. يُحصى له 16 فيلماً في هذه الحقبة. المشاهدون لا بد أنهم يتذكّرونه في أعمال جماهيرية مثل "عودة بينك بانثر" لبلايك إدواردز في دور تشارلز ليتون إلى جانب بيتر سلرز، أو "الرجل الذي أراد أن يكون ملكاً" لجون هيوستن من بطولة شون كونري، حيث لعب دور روديارد كيبلينغ، و"جريمة بمرسوم" لبوب كلارك حيث لعب دور المحقق الشهير شرلوك هولمز. كما شارك في إنتاجات ضخمة مثل "واترلو" لسيرغي بوندرتشوك فأدى فيه شخصية الدوك ويلينغتون، إلى جانب رود ستايغر في دور نابليون وأورسون ولز في دور لويس الثامن عشر.
لم يتردد في القفز بين الأنواع السينمائية المختلفة التي لا يشبه أحدها الآخر، وذلك هرباً من السقوط في النمطية. نجوميته لم تمنعه يوماً من قبول الأدوار الثانوية أو حتى المغامرة في أفلام هابطة باتت من الأعمال الكلاسيكية مع الوقت، مثل "ستاركراش" للإيطالي لويجي كوزي. روى أنه وافق على أن يمثّل في هذه "الفانتازيا الخيال علمية" طمعاً بالإقامة لبضعة أيام في روما حيث جرى التصوير. كان يعرف جيداً أن لا وجود لدور صغير ودور كبير بل دور يكشف مدى موهبته. في مقابلاته، كنّا نلمس خفّة دم الرجل. كان جدياً من دون أن يأخذ نفسه على محمل الجد.
ضابط جمارك
في الثمانينيات والتسعينيات، تراجع مستوى أدواره بعض الشيء، مع ذلك ظهر في أفلام مثل "ستار تريك 6: البلد غير المكتشف" لنيكولاس ماير في دور الجنرال، و"مالكوم إكس" لسبايك لي حيث لعب دور سجّان عنصري، و"دولوريس كلابورن" لتايلور هاكفورد في دور المحقق، وأيضاً "12 قرداً" لتيري غيليام في دور خبير فيروسات. هذان العقدان اختتمهما بـ"المطّلع" لمايكل مان، فأشاد النقّاد بدور الصحافي مارك والاس الذي لعبه فيه. ولكونه كندياً، فكان من الطبيعي أن تلتقي طريقه عاجلاً أم آجلاً بطريق مواطنه المخرج أتوم إيغويان، فأطل في سينماه للمرة الأولى من خلال "أرارات" (2002) مجسّداً دور ضابط جمارك في المطار، علماً أن الفيلم عن حوار بين الأجيال على خلفية الإبادة الأرمنية. عاد ولعب تحت إدارة إيغويان مرة ثانية وأخيرة في "تذكَّر" عن حكاية صادمة وجميلة تعيدنا إلى أسرار مرتبطة بالمحرقة النازية.
خلال مسيرته التي تمتد على نحو 70 عاماً، نال بلامر "أوسكاراً" وجائزتي "توني" وجائزتي "إيمي". واللافت أنه نال "أوسكار" أفضل ممثّل ثانوي وهو في الـ82 عن دوره في "المبتدئون" لمايك ميلز (2011) الذي تناول سيرة رجل يعلن مثليته الجنسية وهو في خريف العمر. بدت الجائزة كأنها تتويج مستحق لرحلة سينمائية طويلة. وبفوزه هذا، أصبح بلامر أكبر الفائزين سنّاً بالـ"أوسكار"، علماً أنه كان ترشّح للمرة الأولى لها وهو في الثمانين عن دوره في "المحطّة الأخيرة" لمايكل هوفمان حيث لعب دور الكاتب الروسي ليو تولستوي، ولكنه خسرها أمام كريستوفر فالتس. يوم نال الـ"أوسكار"، نظر إلى التمثال الذهب وقال: "حبيبي، لستَ سوى سنتين أكبر منّي، أين كنت طوال حياتي؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السنوات الأخيرة من حياته، حصل ما لم يكن في الحسبان: بعد اتهامات بالتحرش الجنسي سيقت ضد كافن سبايسي، حذفه المخرج ريدلي سكوت من فيلمه "كلّ المال في العالم" وأعاد تصوير مشاهد سبايسي مع بلامر. الأمر الذي كان محل بعض الانتقادات، علماً أن سكوت وضّح قائلاً بأن بلامر كان خياره الأول ولكن تردد بسبب عمره قبل أن يختار سبايسي. ضمن الفيلم لبلامر ترشيحاً آخر للـ"أوسكار"، ومرةً جديدة أصبح وهو في الثامنة والثمانين أكبر الممثّلين سنّاً يترشّح للجائزة المرموقة.
على رغم السنوات التي أثقلت كاهله والتجربة المديدة التي كانت له على الشاشة وفوق الخشبة وداخل التلفزيون، لم يعلن الممثّل الراقي يوماً عن رغبته في الاعتزال أو التوقّف عن العمل والانسحاب إلى بيت ريفي بعيداً من الأضواء، بل كان يؤكد أن التقدّم في السن لم يمنع صنّاع السينما من أن يرسلوا له أفضل الأدوار الممكنة، حتى أنه ادعى أن الأدوار التي باتت تُقترح عليه أصبحت أفضل من حيث النوعية ممّا كانت عليه عندما كان شاباً.
كان بلامر نجماً من المدرسة القديمة. انتهج العمل الدؤوب واعتقد به كوسيلة ارتقاء. لم يمل. كانت له طلّة جميلة: صوت عميق وقامة ذات هيبة. يدخل في جسد أي شخصية. "دفتر تلوين" كما قال عنه ريدلي سكوت. كثر وجدوه ممثّلاً شكسبيرياً ربما لقدرته على اختزال تجربة تراجيدية ما. وعلى رغم كلّ الأدوار التي لعبها في حياته، ظل الضابط المعادي للنازية في "صوت الموسيقى" يتعقّبه أينما حل، إلى درجة أنه عبّر مراراً عن امتعاضه من هذا الأمر. روى أنه كره "صوت الموسيقى" لأن صوته فيه خضع للدبلجة، موضحاً أن السبب الوحيد الذي كان جعله يوافق عليه هو فرصة الغناء بصوته.