في الحقلة الأولى، سردنا باختصار منهج الشك عند أبي حامد الغزالي، الذي يرتكز على محورين اثنين في تحقيق اليقين، أولهما، الحدس الصوفي الذي لا يحصل لكل إنسان، وثانيهما، الاكتساب بدليل الاستدلال والعلم. ولقد اقتصرنا على كتابه "المنقذ من الضلال" تمهيداً للإجابة على سؤالنا المتعلق في هذه الدراسة.
ديكارت (1596 - 1650)
من المعلوم أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت طور منهجاً علمياً جديداً في البحث عن اليقين، وبشكل مستقل عن علوم العصر الوسيط، ولكن، هل كان فعلاً مستقلاً من علوم الماضي تماماً؟ وفقاً إلى الحقائق العامة، فإن بواكير النهضة الأوروبية نهلت من علوم العرب، ولعبت حركة الترجمة الأوروبية من القرن الـ 11 إلى القرن الـ 13 الميلادي في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وصقلية دوراً بارزاً في نقل أمهات الكتب العربية إلى اللاتينية. ومن حيث المبدأ المعرفي، فإن ديكارت وغيره، قرأوا ما يخصهم من تلك التراجم واستفادوا من علومها.
وقبل الإجابة على سؤالنا الرئيس في هذه الدراسة، دعونا نستعرض باختصار منهج الشك عند ديكارت.
يركز ديكارت على ضرورة التفرقة بين الأفكار الواضحة، التي لا يطالها الشك أبداً، مثل الكل أكبر من الجزء، أو أن الشك لا يمكنه أن يضع نفسه موضع الشك من نفسه، كما في عبارته الشهيرة "أنا أفكر إذاً أنا موجود". والأفكار غير الواضحة التي يطالها الشك، مثل الرمزية الأسطورية أو الدينية وما يتعلق بها تجاه الله، وفكرة الكمال الإلهي. إذ يبحث الناس ذلك من دون أن يدخلوا فيها معيار العلم في القوانين الطبيعية والرياضية.
كما يرى ديكارت أيضاً، أن المادة والروح (أو العقل) هما المكونان لهذا العالم والكون بأسره. فالأولى، لا تفكر ولها كثافة وتمتد متحركة في مكان. أما الثانية، فتفكر ولها إحساس وإرادة وليس لها كثافة ومكان. كما أن هذين الحدين متنابذان ولا يؤثر أحدهما على الآخر بأي شكل كان. فالوجود إنما يتكون من هذه الثنائية المطلقة. وبذلك، فإن العالم الطبيعي هو مادة متحركة، وعلى العلم اكتشاف القوانين التي تعمل فيه من أحداث وظواهر. وإذا جُردت الأفكار الرياضية من الواقع الموضوعي، حيث لا وجود لها إلا في العقل، فإن هذا العالم يصبح عالماً رياضياً. إذ إن معرفة الأساس الرياضي للمادة تعني الوصول إلى الحقيقة النهائية، التي هي عقلية محضة يكون مجالها في الاستدلال المنطقي والتركيب الرياضي ليس إلا.
وعليه، فبمقدورنا أن نصل إلى توضيح كلي للنتائج التي تترتب على المبادئ الأساسية الرياضية، التي تتكون منها الطبيعة من جهة، وإلى إثبات هذه المبادئ كونها في ذات الطبيعة نفسها من جهة أخرى. وبذلك يمكننا أن نستنتج أي جزء منها، إذ تصبح الطبيعة نظاماً منطقياً للتنبؤ وفقاً للأسس الرياضية.
وهكذا يؤسس ديكارت فلسفة علمية تجعل الطبيعة شيئاً مادياً، وفي الوقت نفسه تكون شيئاً مدركاً ضمن نطاق الفكر. وهو بهذا النهج يوجه ضربة قاضية إلى عقلية القرون الوسطى في أوروبا، وفلاسفتها المدرسيين الذين يرون أن الأحداث والظواهر في الطبيعة من تأثيرات خفية مستترة دوماً.
ومثلما يؤكد ديكارت على علم الطبيعة وعالمها المادي، فإنه يؤكد أيضاً على العالم العقلي المتسامي معها، إذ تكون العقول في هذا العالم الموضوعي حقائق لا يصلها الشك البتة. فالعقل هو "جوهر مفكر" خاصيته تكمن في التفكير فقط. فإذا قال قائل: أنا أفكر فيجب أن أكون موجوداً، ويقصد أنه موجود في حالة السير أو الأكل، فبحسب رأي ديكارت، أنه بمقدورنا التفكير في السير من دون أن نسير، وأن نفكر في الأكل من دون أن نأكل، إلا أننا لا نقدر أبداً أن نفكر في التفكير من دون أن نفكر. وهنا، تكون ثمة قضية واحدة لا يمكن أن تخضع إلى الشك التام، إذ كل فرد له يقين تام عن طريق الحدس المباشر في وجود فكره الخالص. فعندما يرى ديكارت إمكان إثبات وجود الله، فإن ذلك يكون إثباتاً قوياً إلى الأنا نفسها التي تجنب الإنسان الشك التام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن ديكارت يحاول الوصول إلى الحقيقة اليقينية المطلقة بواسطة الفكر من خلال الواقع الموضوعي، الذي هو مجال الحقائق الاحتمالية والتقريبية التي لا يمكن البت فيها بشكل يقيني إلا بالعقل. ومن هنا، فإن الشك بالنسبة إلى ديكارت عبارة عن عملية نظرية بحتة أو فكري تجريدي خالص. فهو يشك في العالم الخارجي وفقاً للتجريد من هذا العالم، إذ يستخلص الأفكار الرياضية من عالم الموضوعات الفيزيائية، فيجعل طبيعة العالم المادي ذا مجال رياضي له بنية منطقية هي مبادئ بديهية في حد ذاتها، ولذلك ليست في العالم صفة ما لا يمكن استنتاجها منه. كما أن ديكارت وهو في عملية الشك التي يجريها في منهجه على كل شيء موجود، استثنى منها الفكر أو الشك، إذ لا يمكنه أن يشك في شكه. صحيح أن ديكارت لم يكن يشك لمجرد الشك، بل من أجل الوصول إلى اليقين، ولهذا لم يعكس منهجه الشكوكي على شكه، وكما قال "يوجد شيء واحد لا يمكن أن أشك فيه، وهو أنني أشك".
وبحسب تصور ديكارت، فإن الموضوع الذي تقف عنده عملية الشك يكون هو البداية الصحيحة، التي يجب أن تنطلق منها الفلسفة. وأكد أن هذه البداية جلية واضحة بذاتها بالنسبة إلى العقل، كونها حقيقة يقينية ومطلقة. ومن هنا، يضع ديكارت حداً لشكوكه بمحض إرادته من جانب، ومن اليقين الذي يصله بفكره الشكي من جانب آخر. وهو بذلك أرسى التشكل الممكن في البداية المطلقة للفلسفة، ولكن من مبدأ أن "الحقيقة ذاتية" ليس إلا. وعلى هذا الأساس الذاتي يضع أربع قواعد تمكننا من أن نتحقق من الحقيقة.
القاعدة الأولى: ألا نقبل أي شيء على أنه حق من دون أن يتبين لنا بالبداهة أنه كذلك. وأن نتجنب العجلة في إصدار الحكم أو الظن، إلا بعد أن يتراءى للذهن أنه واضح جلي لا يصله الشك أبداً.
القاعدة الثانية: أن نعمد إلى تجزئة المعضلات إلى أقسام، ما يلزم وما يمكن منها، وذلك بغية الواجب لهذه المعضلات.
القاعدة الثالثة: أن نسوق أفكارنا بشكل ترتيبي يبدأ من السهل ويصل إلى الصعب في معرفة الأشياء، وذلك بافتراض وجود نظام الترتيب، حتى لو لم يكن بين هذه الأشياء ما يخضع للتنظيم.
القاعدة الرابعة: أن نجري العديد والكثير من الإحصاءات والمراجعات الشاملة في كل مجال نبحث فيه، لكي تجعلنا على ثقة بأننا لم نهمل شيئاً ما. ولكن إذا كانت الحقيقة عند ديكارت ذاتية، ولقد وضع لها قواعد أربعة تجنبنا الشك، وتصلنا إلى اليقين، فكيف إذاً يعمل العقل فيها، وما وسائل العقل الذاتية في تحقيق ذلك؟
وفق رأي ديكارت، فإن عقلنا يملك وسيلتين تمكنانه من الارتقاء إلى "معرفة الحقيقة" ألا وهما الحدس والاستنتاج. فالأولى، يعني بها ديكارت الإدراك الفكري الواضح والمميّز بحيث لا يبقى للشك أي مجال فيه، إنه إدراك بديهي صادر عن الفكر نفسه، وناشئ عن أنوار العقل وحدها، إذ بمقدور كل فرد أن يتبين بالحدس أنه كائن موجود ويفكر، فيدرك بالبداهة الذاتية، أن للمثلث ثلاثة أضلاع، وأن الكرة سطح واحد، وهكذا. أما الثانية، فإنها العملية التي نستخلص بواسطتها النتائج الناجمة بالضرورة عن معرفتنا لشيء مؤكد. فهناك كثير من الأشياء ليست بديهية بذاتها، غير أنها تحمل طابع اليقين شريطة أن يستنتجها سير الفكر المستمر والمتواصل من مبادئ صحيحة سليمة خالية من الشك. فإذا كان خواص المثلث هي: الزوايا، الأضلاع، الشكل، الامتداد، فإن الاستنتاج يبرهن على ضرورة القضايا المستخلصة منطقياً من هذه العناصر البسيطة، وهو الذي يثبت بأنها صحيحة بالضرورة. وإذا كان الحدس يحتاج إلى بداهة حاضرة ماثلة، فإن الاستنتاج يستمد يقينه من الذاكرة، فنعرف بذلك أن القضايا الأولى الصادرة مباشرة عن المبادئ بأنها عبر الحدس والاستنتاج.
وعليه، فإن المبادئ نفسها تُعرَف عن طريق الحدس، وهي التي تمدنا بالحقائق الحدسية الأولية في الماورائيات. أما النتائج البعيدة، فعن طريق الاستنتاج الذي يُعرفنا بالمبادئ الأساسية في تعليل الطبيعة. وإذا كان هذا هكذا، فإن ديكارت يصل بفلسفته الشكية المنهجية إلى دور وأهمية التجربة، التي هي وحدها تجعلنا قادرين على تبيان هذا العالم. إلا أن ديكارت يرى أن توافق نتائج فرضية مفسرة مع التجربة لا يعني أبعاد الشك عنها وإنها تخلق اليقين التام، لأن التوافق هنا لا يثبت تماماً القيمة المطلقة الخاصة لهذه الفرضية. والسبب فيما يعتقد، أننا لا نتمكن أبداً من التأكد من عدم وجود افتراض آخر من شأنه تفسير الوقائع المقحومة مثل هذه الفرضية، إلا أنه يخلق يقيناً معنوياً قد تكون له قوة معينة، لأن قوة اليقين تزداد بازدياد عدد الظاهرات التي تسمح الفرضية بتفسيرها في آن.
وبحسب مفهوم ديكارت، فإن المعرفة اليقينية التي لا يعتريها الشك، تعتمد على مدى معرفتنا بوقائع التجربة، والسبيل إلى ذلك، أن نقوم بعملية فكرية ثلاثية الركائز: حدسية وتجريبية واستنتاجية. الأولى، لتسمية المبادئ الأولية الموضحة لكل شيء، والثانية، من أجل أن نستخلص من هذه المبادئ نتائجها المباشرة، والثالثة، في تناول الوقائع ومقارنتها مع مبادئ التفسير الموضوعة بشكل سابق للتجربة.
وأن "تعدد القاعدة كل الأنشطة الفكرية التي يمكننا من خلالها الوصول إلى معرفة الأشياء من دون أي خوف من الخداع. فهي تسمح بحدسين واستقراء فقط. وأعني بالحدس ليس التأكيد المتذبذب للحواس، أو الحكم المضلل للخيال الخطأ، ولكن التصور الذي يتكون من الانتباه العقلي الواضح، فهو سهل للغاية ومتميز بحيث لا يترك مجالاً في ما يتعلق بما نحن عليه من فهم... وهكذا، يمكن لأي شخص أن يرى من خلال الحدس العقلي أنه هو نفسه موجود، وأنه يعتقد أن المثلث يحده ثلاثة أضلاع فحسب، وأن الكرة الأرضية بسطح واحد، وما إلى ذلك. هناك كثير من هذه الحقائق أكثر مما يلاحظه معظم الناس، لأنهم يأنفون أن يوجهوا عقولهم إلى مثل هذه الموضوعات". (كتابات فلسفية، طبعة إنجليزية). ص 155.
ويعتقد ديكارت، أن العلوم مترابطة بشكل وثيق لدرجة أنه لا يمكن دراسة علم ما بمعزل عن بقية العلوم. ولقد أرسى لفكره أربع قواعد ترشده في طلب المعرفة الحقة، وهي:
القاعدة الأولى، ألا أقبل أي شيء على أنه حق ما لم يتبين لي بالبداهة أنه من الوضوح والجلاء بحيث لا يبقى لدي مجال للشك فيه.
القاعدة الثانية، أن أُقسم المشكلات المبحوثة إلى ما يمكن وما يلزم من تجزئة لحل هذه المشكلات بأفضل طريقة.
القاعدة الثالثة، أن أطرح أفكاري بالترتيب، مبتدئاً بأبسط الأشياء المستساغة علمياً، ثم بالتدريج إلى معرفة أكثر الأشياء تعقيداً.
القاعدة الرابعة، أن أضع في كل مجال الإحصاء والمراجعة الكاملة التي تجعلني على ثقة بأنني لم أهمل شيئاً ما.
صفوة القول إن ديكارت يقابل بين العقل والحواس، فالأخيرة مجرد أدوات عملية يسدي نتائجها النفع العام في الحياة، إلا أنها خالية من القيمة بالنسبة إلى المعرفة. أما العقل فهو نوع من الإشراق الخارق، والله هو الذي وضع في الإنسان فطرياً بعض الأفكار وهي المعارف الأولية.