غالباً ما يلقي قرّاء الأدب وكتّابه نظرة استخفاف أو استعلاء على الروايات التي تصدر تحت صفة "بوليسية". نظرة جائرة ترى في هذه الأعمال مجرّد نصوص ترفيهية ضحلة، وتعكس بالتالي جهلاً غير مبرّر بنوع أدبي منحنا أسماء وعناوين تضارع في قيمتها أفضل ما كُتب في الأنواع الأدبية الأخرى. ولتبديد هذا الجهل وردّ إلى هذه الروايات اعتبارها، عبر كشف خصوصياتها وغناها، والتعريف بأصحابها، وضع الشاعر والروائي السورّيالي الفرنسي ألان جوبير سبعة عشرة مقالاً نقدياً طويلاً صدرت جميعاً في مجلة La Quinzaine littéraire الفرنسية بين عاميّ 2002 و2004. مقالات دفعت قيمتها دار "موريس نادو" الباريسية العريقة إلى جمعها في كتاب صدر حديثاً بعنوان "العلبة السوداء".
في هذه المداخلات التي تُقرأ بمتعة وفضول نادرين، لا يقترح جوبير فقط قراءات منيرة في بعض الروايات "البوليسية" التي فاتت قيمتها النقّاد، بل أيضاً كل ما تثيره هذه القراءات داخله من تساؤلات وتداعيات حول أعمال أخرى (كتب، لوحات، أفلام...) أو أحداث متفرّقة وظواهر اجتماعية أو سياسية، وذلك من منطلق أن كل عمل أو حدث يتضمّن في طبيعته "علبة سوداء" تكشف، إن فتحناها، ذلك المستور أو الباطن الذي يقف خلف وجوده أو حدوثه. علبة تتضمن إذاً حقيقة خفية مثيرة تتطلّب مثقفاً بصيراً مثل جوبير لإخراجها إلى دائرة الضوء وتحديد معالمها.
قلق ولغز
في مطلع مقاله الأول، ينتفض الشاعر على عبارة "Polar" الفرنسية التي "توحّد، تسفّه، تسطّح وتضع في المستوى الأدنى نفسه السوداوية التراجيدية أو الدعابية، اللغز مع أو بلا مفتاح، القلق الفيزيقي أو الميتافيزيقي، التشويق العنيف أو المصفّى، المغامرة الشهمة أو الجامحة"، وهي بعض العناصر الفاعلة داخل الأدب الشعبي الذي تلقى عليه العبارة المذكورة. وفي هذا السياق، يتساءل "كيف يمكن وضع داخل العربة نفسها، ريموند شاندلر، دايفيد غوديس، جيم تومسون، ثم موريس لوبلان، غاستون لورو، مارسيل ألان (...)؟ وماذا نفعل بكونان دويل أو دونالد ويستلايك، بجايمس كاين أو جورج سيمونون، بهوراس ماك كوي أو ليو ماليه، بجان باتريك مانشيت أو لورانس بلوك (...)؟ هل يعقل رصفهم جميعاً تحت تلك العبارة"؟ ويضيف: "الأشكال الكتابية المختلفة التي تتطلّبها هذه الأشكال الإبداعية المختلفة، الأنواع الخيالية المدهشة التي تستدعيها تلك العوالم المختلفة، والشعر الشعبي (بالمعنى الأرستقراطي للكلمة) الذي يحضر في هذه الأمكنة المتنوّعة بقدر ما هي غير متوقّعة، والمفعمة بالمعلومات الاجتماعية ــ السياسية وبأمثولات حاسمة في الطبيعة البشرية وفظاعتها؛ كل هذا الثراء ألا يستحق أفضل من عبارة Polar المفجعة؟".
لأن الجواب عن هذا السؤال بديهي، يدعونا جوبير إلى بذل جهد مشروع والتحدّث مثلاً عن "روايات معتمة" أو "روايات مقلقة" أو "روايات مغامرات لصوصية" أو "روايات ملغزة"... أو بكل بساطة عن "روايات" فحسب، لكن من دون أن ننسى أبداً أن هذه الأعمال، على اختلاف أنواعها، حين يقف خلفها مبدعون حقيقيون، تتضمن دائماً درجاً سرّياً ــ علبة سوداء ــ علينا أن نكتشفها بأنفسنا ولأنفسنا لدى قراءتها. وكمثال على ذلك، ينصحنا بقراءة رواية "لصوص" للأميركي كريستوفر كوك، ليس فقط لأسلوبها الفريد وحدّة السرد فيها وعنف خطابها، بل لأنها تشكّل أيضاً خير مرجع للتعرّف إلى عالم شخصيات "تعيش في بؤسٍ حاقد داخل بلدٍ ــ أميركا ــ يتخبّط في حالة فسق اقتصادي بعدما أضاع منذ زمن بعيد نقاط استدلاله المؤسِّسة". ومن بين هذه الشخصيات، شاب يقول في لحظة ما: "أن يكون المرء فناناً هو مثل أن يكون مجرماً".
ولكشف صواب هذه الإشراقة التي لا يدري صاحبها كيف خرجت من فمه، يذكّرنا جوبير بأن ثمة نوعين من الفنانين: أولئك الذين يسجدون أمام الكلمة، أي أمام الصورة التي لديهم عن أنفسهم، وهم الأكثرية، ونراهم في كل مكان وعلى كل المنابر يتلقّون ويستأثرون، لكن نادراً ما يمنحون شيئاً بالمقابل، فنانون قد يملكون موهبة، لكنهم يكتفون غالباً بممارسة خبرة ويشغلون وظيفة اجتماعية محدَّدة، وظيفة "فنان"؛ وأولئك الآخرون، الذين هم القلّة والاستثناء، الذين يتصرّفون كمجرمين مع المؤسسات الثقافية والتجارية والوطنية والخاصة التي ترغب في تحويل آثار إبداعهم إلى سلع، ومع الفن الذي يمارسونه بالذات لإجبارهم إياه على تسليم كل أسراره وخدعه، وعلى التخلي عن تردداته وخجله وريبته، لأن إبداعهم لا يمكن أن يكون في نظرهم عمل "فنان" بل عمل "متمرّد وخارج عن القانون ومجرم بشرف". مبدعون على طريقة أحد مبتكري السوّريالية، جاك فاشيه، الذي كتب عام 1917: "نحن لا نحب الفن ولا الفنانين".
مفاجآت الليل
وانطلاقاً من ذلك، يدعونا جوبير إلى تأمل طريقة فريدة في وضع أنفسنا خارج العالم لولوجه بشكلٍ أفضل، وخارج الثقافة للتحكّم بها بشكل أفضل، وخارج ذاتنا لفهمها بشكل أفضل. طريقة يكون كل واحد منا فيها "فناناً" و"مجرماً" على حد سواء. وفي هذا السياق، يستحضر رواية الإسباني إنريكي فيلا ماتاس،"السفر العمودي"، التي يغوص بطلها داخل دوّاره الخاص والهلسي ليصل في النهاية إلى ذلك المكان الذي لا تحمل الأشياء فيه أسماءً، ولا أثر لآلهة اسطوريين أو لبشر دنيويين، بل فقط لهوّة يكتشف داخلها أن الهبوط صعود والحرية على حدود الاكتئاب. رواية تشكّل بقصّتها وطرافتها اللاذعة والمجرّدة من الأوهام رحلة مسارّية لا تفوَّت.
ولأنه يحدث أن يؤدّي الليل الدور المسارّي نفسه، بمنحه إيانا ما يكفي من مفاجآت كي يتملّكنا عند الفجر شعوراً بكشفٍ، ينصحنا جوبير بقراءة أيضاً رواية "الليلة المسحورة" التي وضعها الأميركي ستيفين ميلهاوسر على شكل فصول قصيرة هي عبارة عن قصائد نثر على طريقة رائد هذا النوع الشعري ألويسيوس برتران، ويحلّ فيها مناخات غرائبية تنشط داخلها شخصيات تبدو وكأنها خارجة تواً من حلم طويل... حلم ما أن ينتهي حتى نشعر بأننا بتنا مختلفين لتمكّن ميلهاوسر خلاله من جعلنا نرى ما لا يُرى، بالتالي من جعل اللامرئي ملموساً. وبذلك، يعتبر جوبير أن هذا الكاتب "مجرم من نوع خاص جداً، يمنح الحياة بدلاً من سلبها، ووحده الليل يموت في الساعة المحدّدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن حلم ميلهاوسر يقفز جوبير بنا إلى مكانٍ آخر يتعذّر تحديده ولا يقل غرابة، تتحضّر داخله وليمة لعرسٍ، وتنطلق فيه جملة تساؤلات تتوالد من ذاتها ويطرحها "عجيجٌ هلسي من كائنات حيّة ونباتات": الذباب، المدعوّون، أوراق الشجر، الطيور، العجزة، النحل (...). تساؤلات يخطّها الشاعر والكاتب البلجيكي أوجين سافيتسكايا في روايته "الاحتفال بزواج غير محتمل وغير محدود" بلغة "تخلق وحدها الخارق الأكثر تلبّداً"، مرتكزاً فيها "على كلمات بسيطة، على واقع يمكن الاستدلال إليه، وعلى حالات ملموسة، لإثارة نوع من الجنون المعمَّم تتوه فيه العين والأذن" على حد سواء. رواية يحثّنا جوبير على قراءتها "بصوت عال لإدراك فرادتها المطلقة واستشعار الحدة القصوى للجريمة المرتكَبة داخلها في حق النمط السردي التقليدي، باسم الشعر".
هنا ينتهي المقال الأول من "العلبة السوداء". ومَن يرغب في معرفة ما تخبّئه المقالات الستة عشر الأخرى من اكتشافات أدبية مشوّقة وقراءات نقدية ثاقبة وتداعيات فكرية مدهشة، ما عليه سوى مطالعة هذا الكتاب الذي يتعذّر تلخيص مضمونه الثري أو مقارنة متعة قراءته بأي كتاب آخر.