بعد نحو خمس سنوات على رحيله، تسلط الأضواء مجدداً على الملاكم الأسطورة محمد علي كلاي (1942 - 2016) في مناسبة عرض فيلم جديد عنه. الرياضي الشهير محور "ليلة واحدة في ميامي" إخراج الممثلة والمخرجة ريجينا كينغ في باكورة أعمالها الروائية الطويلة. الفيلم مقتبس من مسرحية تحمل العنوان نفسه للكاتب كمب باورز، عُرضت على الخشبة للمرة الأولى في العام 2013.
الفيلم خيالي محض، لكن عناصره مستقاة من الواقع الأميركي في الستينيات. يتخيل باورز في نصه المبتكر، لقاء لم يحدث قط في فبراير (شباط) من العام 1964، بين المناضل مالكوم إكس ولاعب الكرة جيم براون والمغني سام كوك وأخيراً وخصوصاً الملاكم محمد علي داخل غرفة فندق، وذلك للاحتفال بفوز علي على خصمه سوني ليستون. جمهور مهرجاني البندقية وتورونتو الأخيرين سبتمبر (أيلول) 2020 تسنى له مشاهدة هذا الفيلم الذي نزل إلى الصالات بعدد نسخات محدود في عيد الميلاد الماضي، قبل أن يصبح متوافراً على شكبة الإنترنت منذ نحو شهر. الآراء النقدية في شأنه كانت إيجابية، وقد تم الثناء على الإخراج والتمثيل والسيناريو. إلا أن المفاجأة الكبرى تجسدت في ترشح الفيلم لثلاث جوائز "غولدن غلوب" في دورتها الـ78.
العنصرية السائدة
إليكم السياق الزمني والظروف الاجتماعية التي تجري فيها أحداث الفيلم التي لا بد من فهمها. في العام 1963، خسر محمد علي مباراة ملاكمة أمام هنري كوبر في ملعب ويمبلي في لندن. في الوقت نفسه، كان مغني السول سام كوك يقدم حفلة غنائية في ملهى كوباكابانا النيويوركي، أمام جمهور من البيض حصراً، لكن لا يكترث لفنه كثيراً. هذا الحفل يجري أيضاً تزامناً مع عودة لاعب الكرة جيم براون إلى جورجيا، حيث يستقبله صديق العائلة السيد كارلتون في مزرعة كبيرة، لكنه، مع ذلك، يُمنع من دخول منزله بسبب لون بشرته. بعد عام، يجتمع كل هؤلاء في ميامي، في مناسبة خوض محمد علي مباراة شرسة ضد سوني ليستون. يلتقي مالكوم بعلي في غرفته في الفندق قبل صعوده الحلبة، ويروح كلاهما يصليان. وفي حين يُسند إلى جيم براون دور التعليق على المباراة، يختلط سام كوك بالجمهور. بعد فوز علي ببطولة العالم للوزن الثقيل لأول مرة في حياته مفاجئاً الجميع، يدعو رفاقه الثلاثة إلى غرفته التي ستشهد على ليلة حامية.
لا يمكن الحديث عن هذه الفترة من تاريخ أميركا، من دون ذكر العنصرية السائدة والتمييز العرقي الذي عاشه السود. الأمر الذي سيجعل أربعة من أبرز الأشخاص الأفرو أميركيين حينها ينعزلون في غرفة فندق للاحتفاء بصمت، لأنه لم يكن يسمح لهم بالاحتفاء في مكان عام. يرتكز السيناريو على تشابك الكلام بينهم، وهذا يعني أننا حيال فيلم فيه كثير من النقاش، لكنه نقاش من النوع الذي يسهم في بلورة الدراما، فبعض اللحظات تحبس الأنفاس. هناك أيضاً فسحة نخرج إليها، من خلال سلسلة من الفلاشباكات، نتعقب خلالها خطى الشخصيات في أحداث رمزية تعيشها، وذلك قبل حلول هذه الليلة المتخيلة. الغرفة هنا مساحة لهؤلاء يسرحون فيها ويمرحون، واللافت أن كلاً منهم لديه مآخذ على الآخر، ولا يتردد في قولها بصراحة. في النهاية، يمكن اعتبار الفيلم، وإن يكن متخيلاً، لحظة مصارحة عاشتها أربع شخصيات أسهمت في تغيير الواقع عبر إصرارها على فرض حضورها والمطالبة بحقوقها.
ما سر عشق السينما لهذه الشخصية؟ يصعب إيجاد رد سهل على هذا السؤال. إلا أننا، قد نعثر على بعض الجواب في التفاصيل. حكاية السينما الأميركية مع محمد علي كلاي طويلة وتفتح الباب على كثير من الوقائع. فهناك ما لا يقل عن دزينة من الأفلام عنه مذ ذاع صيته، أهمها، "الأعظم" روائي لتوم غرايز (1977) حيث اضطلع علي دوره بنفسه، "عندما كنا ملوكاً" وثائقي لليون غاست (1996) الذي يتطرق إلى معتقدات الملاكم وهو يستعد للقتال، "علي" روائي لمايكل مان (2001) وهو أجمل فيلم عنه إلى اليوم، "محاكمات محمد علي" وثائقي لبيل سيغل (2013) الذي يركز على اعتناقه الإسلام ورفضه لحرب فيتنام.
نجم سينمائي
السينما الأميركية التي شهدت منذ نشأتها عدداً كبيراً من أفلام السيرة لشخصيات معروفة لم تتردد في تصوير حياة علي، بل كان بديهياً أن تنكب عليه، للدور الذي اضطلع به في تطوير العقليات السائدة في أميركا، ولحاجة الشاشة الكبيرة لشخصيات ثائرة سواء في إطار الترفيه أو التثقيف. كانت أميركا في نهاية الستينيات تثور على نفسها، الاحتجاجات لوقف حرب فيتنام تعم المدن. وكان الأفارقة الأميركيون يطالبون برفع الظلم عنهم عبر تعديل القوانين العنصرية. فيما المرأة راحت تبحث عن حقوقها الضائعة. كان زمن التغيير الأكبر، فألقى بظلاله على الحياة الثقافية والفنية، وصولاً إلى الشاشة.
منذ بداية إطلالاته على العالم، كان محمد علي شخصية سينمائية تستوفي كل شروط البطولة على الطريقة الأميركية. ولكن، لم يكن رمزاً للحلم الأميركي. كان تحديه مزدوجاً، داخل الحلبة وخارجها، حيناً رياضياً وحيناً لاعباً في السياسة. تحدى علي أميركا على أرضها، عسكراً وقضاءً، الأمر الذي لم يكن مألوفاً في ذلك الوقت. رفضه لكل شيء جعله يفوز بتأشيرة دخول إلى السينما.
في "الأعظم"، صور المخرج توم غرايز أول فيلم روائي عن علي. وكانت فكرة الاستعانة بعلي الحقيقي بدلاً من ممثل، بهدف تماهي الجمهور معه. تغطي أحداث الفيلم الفترة بين 1960 إلى 1974، وينتهي مع المواجهة الشهيرة بين علي وجورج فورمان. هوية الفيلم ضائعة بين الروائي والوثائقي، خصوصاً أنه يستخدم مَشاهد ملاكمة حقيقية. لحسن الحظ، ونظراً لعدد الأفلام عنه، فالعلاقة بين محمد علي والسينما كانت علاقة حب من طرفين، أعطاها وأعطته. الأفلام التي تناولته أقامت له اعتباراً وحاربت من خلاله الفكر المحافظ المسيطر على هوليوود. في البداية، استعانت به كممثل، كمن يريد القول إن لا ممثل يستطيع أن يحل مكان الشخصية الحقيقية. رافق علي كل مراحل التطور الاجتماعي في أميركا وأصبح رمزاً للمستضعفين في العالم. من خلاله، لبت السينما رغبات الجمهور الطامح إلى التلصص والنظر خلف الستار على الحياة الشخصية لمشاهير أميركا.
"عندما كنا ملوكاً" جاء في مرحلة عاشت فيها أميركا استقراراً قبل الدخول في الاضطرابات الكبرى للألفية الثالثة. جروح الماضي كانت قد التأمت وانتهى التمييز العنصري ضد السود، وبدأ الناس ينسون رموز النضال. الفيلم صور علي مقيماً مسافة من الشخصية لطرحها في ضوء عالم جديد آيل إلى التغيير في كل لحظة، لكن، في نظرة السينمائيين إليه، كانت هناك هيبة استحالت إزاحتها خصوصاً بعد إصابته بمرض الباركينسون، وانتقاله من موقع البطل إلى موقع الضحية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع انزلاق العالم في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001، الذي صادف مع تطور تقنيات التصوير الرقمية، برزت مقاربة أخرى لأفلام السيرة على يد سينمائيين ميالين إلى كشف خفايا الحلم الأميركي. فصار علي بطلاً من الماضي، ولكن بهواجس سينمائي من الألفية الثالثة. كان المخرج مايكل مان في ذروة عطائه الفني عندما قرر إنجاز "علي". في هذا الفيلم، انتقلت شخصية محمد علي إلى أيدي الجمهور الواسع، إذا صح التعبير. الشركة المنتجة وظفت أكثر من 100 مليون دولار لإنتاجه وأُسند دور علي إلى نجم الشباك ويل سميث، فصار علي جزءاً لا يتجزأ من تاريخ هوليوود. مرة أخرى عرفت السينما كيف توظف شخصية علي لربح الأموال وتوجيه الرسائل في آن معاً.
جاء فيلم "علي" بنظرة شاملة إلى قضية محمد علي، واستطاع في الوقت نفسه أن يكون فيلماً سياسياً يذهب أبعد من منشورات الصحافة، وكل ما سبق أن عرفناه عن الملاكم. اقتحم حياته الشخصية وأظهر تناقضاته والصراع الداخلي الذي يعيشه مع نفسه. كانت سنوات الألفين في أميركا سنوات صمود، على عكس الستينيات التي شهدت مرحلة إصلاح وعصيان. في هذا الجو القلق، جاء مايكل مان ليذكر أميركا بضرورة العودة إلى القيم الحديثة التي صنعتها وتأسست عليها. أمام كاميراه، تحول علي نهائياً إلى شخصية سينمائية لا يختلف اثنان على احترامها ولو لم يؤيدا كل مواقفها. والآن، أمام كاميرا ريجينا كينغ، أول مخرجة من أصول أفريقية تصور تفاصيل من حياة علي، نحن حيال فيلم يشبه ما كان يتوق إليه علي، عالم يعطي مزيداً من الحضور للفئات المهمشة ويعيد الاعتبار إلى من ناضل من أجل واقع أفضل.