رحل المفكر المؤرخ المصري المستشار طارق البشري عن عمر ناهز 88 عاماً متأثراً بإصابته بفيروس كورونا. والبشري أحد أبرز المفكرين المصريين في النصف قرن الأخير، اتسم إنتاجه الفكري بالغزارة، ويعده البعض أحد النماذج الدالة على المعطيات الناجمة من التحولات الفكرية .
قدم الراحل إنتاجه الفكري في الحياة العامة في سياق الكتابة التاريخية التي حاولت تقصي أسباب هزيمة يونيو (حزيران) 1967، بالعودة إلى التاريخ المصري. وتم تصنيف إنتاجه الأول ضمن الرؤى اليسارية التي سعت إلى كتابة تاريخ مصري، انطلاقاً من تعزيز فكرة الحركة الجماهيرية، غير أنه أجرى مراجعة فكرية واسعة بعد أقل من عشرين عاماً، دفعت خصومه إلى تصنيف إنتاجه الجديد ضمن شبكة واسعة شملت اليساريين الذين انتقلوا بأفكارهم من اليسار إلى اليمين. وظل على الرغم من ذلك يحظى بتقدير واسع بين المثقفين المصريين على اختلاف توجهاتهم .
وعقب الحراك الجماهيري الواسع في مصر 25 يناير (كانون الثاني) 2011، الذي انتهى بتنحي الرئيس مبارك، اختاره المجلس العسكري رئيساً للجنة التعديلات الدستورية التي رسمت المسار السياسي لمصر في السنوات الأخيرة، وهي تعديلات ساعدت من وجهة نظر البعض على تمكين "جماعة الإخوان المسلمين". وبسبب هذا التفسير، احتجب البشري خلال السنوات العشر الأخيرة، ولم يعد متحمساً للظهور في وسائل الإعلام مكتفياً بإعادة نشر مؤلفاته التاريخية.
اهتم الراحل في كتاباته إجمالاً بدراسة حركة المجتمع، وبالحركات الشعبية أكثر مما اهتم بالأفراد وأدوارهم، فقد جذبته أكثر دراسة المؤسسات السياسية والاجتماعية، انطلاقاً من إدراك الصلة الوثيقة بين الحركة والمؤسسة. وكان مزاجه البحثي منجذباً لدراسة الفكر السياسي في صورته الحركية، وتجلى ذلك في مؤلفه المهم "الديمقراطية ونظام 23 يوليو" الذي دعم فيه الخيارات الاجتماعية لنظام جمال عبد الناصر، وأدان في الوقت نفسه الطبيعة التسلطية لنظامه السياسي الذي ضاعف من شعور الجماهير بـ"الاغتراب عن السلطة السياسية".
تلقائية الجماهير
انحاز البشري إلى ما أسماه المفكر اليساري الراحل أحمد صادق سعد "تلقائية الجماهير" كمعطى ذي معالم واضحة، وإن كان عبر إشارات جزئية، إلا أن هذا الاهتمام راسخ في إطاره الفكري العام وركيزة في بنائه الهيكيلي، ونال البشري التقدير الأهم في الثقافة المصرية مع ظهور كتاباته الأولى في مجلة "الطليعة" التي كانت تصدر عن مؤسسة "الأهرام"، وتعبر عن الفكر اليساري تحت رئاسة لطفي الخولي. ثم جاءت الطبعة الأولى من كتابه "الحركة السياسية في مصر 1945-1952" طفرة خطوة مهمة في الكتابة التاريخية المصرية، بل قفزة كبيرة في سياق تناول تلك السنوات الخصبة من منظور يساري.
وكان تناوله للنظام الليبرالي قبل العام 1952 أكثر تماسكاً من غالبية الدراسات الأكاديمية التي كانت تجتر الرؤى السابقة. وبدا أكثر نجاحاً في فهم تلك الفترة مقارنة مع غيره من المؤرخين. واتسمت الدراسة بجانب موضوعي مثير وفهم ذكي لديناميكيات الصراع السياسي خلال تلك السنوات. ويعد هذا الكتاب أحد النصوص التاريخية المؤسسة، وهو بوصف المؤرخ الهولندي رول ماير "من أفضل الأمثلة على الكتابة اليسارية لتاريخ مصر".
وفي الكتاب إنحاز البشري للدور التقدمي الذي صاغت به التنظيمات الشيوعية المصرية برامج العمل الوطني خلال تلك السنوات التي تعالجها الدراسة، غير أنه تجاوز الرؤية اليسارية التقليدية ووجه في الوقت نفس نقداً للانقسامات التي أصابت التنظيمات اليسارية، وصاغ تصوراً متوازناً للدور الوطني الذي لعبه حزب "الوفد" دون أن يغفل عن انتقاد الجناح اليميني للحزب وافتقاره لبرنامج اجتماعي يجنب مصر مصير الثورة.
ومن المثير في مسيرة البشري، أنه شارك التيار اليساري العام في ستنييات القرن الماضي في توجيه انتقادات لجماعة الإخوان المسلمين، واشترك مع مؤرخ يساري آخر هو رفعت السعيد في وصفها بـ"الغموض الإيديولوجي"، وأدان ممارساتها السياسية بوضوح قبل أن يعيد النظر في هذه الفكرة في الطبعة الثانية من الكتاب.
تراجع البشري إلى حد كبير عن التمسك بإدانة الحركة، وكتب مقدمة جديدة للكتاب في أكتوبر (تشرين الأول) 1983، وصفت تنظيم الإخوان بمصطلحاته الخاصة، وعدّ الجماعة حركة ضمن تيارات الحركة الوطنية، وليست مجرد عميل لأحزاب الأقلية أو القصر. وظل إقراره بدور الجماهير بلا تغيير، في حين راجع آراءه بشكل جذري عن طبيعة الصراع القومي، وعن القيم الثقافية والإيديولوجية للأحزاب السياسية المصرية.
وقرأ البعض تلك المراجعة كواحدة من أبرز التداعيات الناتجة من ظهور الحركة الإسلامية خلال سبعينيات القرن الماضي، وشيوع الإسلام السياسي في صبغته الفكرية. وبتوصيف البشري، فهو حاول في مقدمته الجديدة أن يعدّل تقويماً للحكم الذي أصدره سابقاً، والالتزام بمعيار للتقويم صاغه في شأن التنظيمات السياسية الأخرى وأراد أن يجعل المعيار مركباً من الإخوان ومن غيرهم، بعد أن كان التقويم يستبعدهم كمعيار.
انتقادات فكرية
تعرضت أفكار البشري لانتقادات كثيرة، ورأى منتقدوه أن الحركة الشعبية والهوية الإسلامية الموروثه ظلتا في نظره شيئاً واحداً، كما اعتبر أن "العلمانية والصفوة المنعزلة عن الشعب والفكر الوافد شيء واحد أيضاً"، وظل لا يستبعد وجود فكر إسلامي يربط بين الدين والدولة ولا يعد فكراً رجعياً.
وتبعاً لذلك بدأ تيار من المثقفين الأكثر ليبرالية في تبني خطاب لإدانة البشري، وزاد من ذلك أن مراجعاته الفكرية تزامنت مع تحولات أخرى دفعت بمثقفين عرب آخرين للقيام بـ"ترحال ثقافي" نقل أفكارهم من اليسار إلى اليمين وصُنف إنتاجه ضمن "التراثيين الجدد".
وتجنب البشري الرد على هؤلاء وواصل نشاطه في المجال العام ساعياً لتأكيد نظريته الأساسية المتعلقة بالصراع بين الموروث والوافد. فالحركة الشعبية تتمثل في الأول وتكمن جذور الثاني في الغزو الفكري الأجنبي. وقد أدى هذا الصراع من وجهة نظره إلى زيادة تأثير المفاهيم الغربية مثل العلمانية والاشتراكية والحداثة، وزاد من الابتعاد من الشريعة التي تشكل بدورها أحد المصادر الرئيسة للتراث. وكانت مشكلة هذه الرؤية أنها امتدت من تحليل الصراع السياسي بين القوى الوطنية والاستعمار لتشمل تحليل المشهدين السياسي والثقافي، كما فعل في كتاب حول نظام 23 يوليو عندما اعتبر أن المرحلة الناصرية كانت تمثل أعلى ذروة للتأثير الغربي، ولم تُعدل أو تُكيف في ضوء الوعي التاريخي في مصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي السياق ذاته صاغ البشري مفهومه عن "الجماعة الوطنية " وركز في ما كتب عن الهوية الثقافية كعنصر أساسي للتحرر والتقدم. وهو عنصر أُهمل في كتابات أخرى، وأعطى الأولوية للموروث الحضاري في تأكيد خصائص التميز في الدولة التي تكافح الاستعمار. وعلى الرغم من ذلك فإن دراسات كثيرة وضعت أفكار البشري ضمن الإنتاج الفكري المحسوب على أفكار الإخوان المسلمين، ومنها دراسة أنتوني جورمان "المؤرخون والدولة والسياسة في مصر، حول تشكيل الأمة في القرن العشرين" (ترجمة محمد شعبان ومراجعة أحمد زكريا الشلق، المركز القومي للترجمة 2014 ).
وتم التدليل على ذلك بدراساته الأخرى ومنها دراسته الكبرى "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية" (1980)، وهي أهم دراسة لمؤسسة الأزهر الشريف والكنيسة القبطية من حيث تبيان الصراعات السياسية التي جرت حولهما في إطار الوعاء التاريخي الحاكم للمسألة، وهو الجامعة السياسية. وعلى عكس المدرسة الليبرالية اعتبر البشري العلاقة بين العلمانية والقومية كما سعى حزب "الوفد" إلى اقرارها، انحرافاً عن المألوف وليس عصراً ذهبياً للوحدة القومية. وبلور الراحل في سنواته الأخيرة تصوراً متكاملاً عن رؤية للتاريخ المصري، ترى أن مفهوم التراث الذي قدمه يتضمن الكنيسة القبطية وحزب "الوفد" العلماني، معتبراً أن العلاقة بين الهوية القومية والإسلام تعد السمة الرئيسة لأصالتها.