تعيش مهرجانات السينما في العالم حالة غير مسبوقة من الارتباك والتخبط، في ظلّ دخولها العام الكوفيدي الثاني. جميعها، بلا استثناء، تجد نفسها أمام مصير مجهول. هل توجد خطة إنقاذ، وقد تبين أن للوباء موجات متتالية قد تجلب معها المزيد من المحظورات وتفرض المزيد من القيود وتحصد المزيد من الضحايا؟ ما العمل فيما لا أحد لا يعلم كم ستطول هذه الحرب ضد عدو يفتك بالبشرية من دون أي رادع؟ كيف ممكن لمهرجانات عريقة أن تنظّم أعمالها ولا يوجد أي ضمان أن كل شيء سيعود إلى طبيعته في شهر أو شهرين، في موسم أو موسمين؟
الجائحة التي تسببت إلى الآن بوفاة مليونين ونصف ميلون إنسان حول العالم، بدأت تنتشر في مثل هذه الأيام قبل عام. كان المجتمع السينمائي في برلين يتابع أفلام مهرجانها السنوي، عندما بدأت تصلنا أخبار الوباء، خصوصاً من إيطاليا، البلد الأكثر إصابة حينها. كثر منّا لم يأخذ الموضوع على محمل الجد، لاعتقادهم بأنه مجرد فيروس سيختفي كما اختفى غيره من قبل. كنا نجهل وقتها أننا أمام جائحة سرقت إلى الآن عاماً كاملاً من حياتنا المهنية والاجتماعية، وستغير مستقبلاً شكل حياتنا وتفاصيلها. والأهم في ما يعنينا في هذا المقال هو أن الكورونا تسبب في إلغاء تقريباً كل المهرجانات السينمائية، والبعض القليل الذي أراد التحدي فعلها باللحم الحي وفي ظروف شديدة الخطورة يمكن إدراجها ضمن الصراع للبقاء.
بعد مرور عام على هذه البدايات، يجد المجتمع السينمائي نفسه أمام مشهد مختلف جذرياً عن فجر انتشار الوباء، وأقل ما يمكن القول إنه مشهد مؤسف. مشهد يؤكد بما لا يرتقي إليه الشك أن الرقمية هي التي استولت على كلّ شي، بدءاً من الحياة العملية كشراء المواد الغذائية في ظل الإقفال، وصولاً إلى الحياة الترفيهية ("نتفليكس" وسواها من منصات العرض التدفقي)، عبوراً بالحياة الثقافية المتمثلة حتى الأمس القريب بالمهرجانات السينمائية التي لجأت مُسيّرةً لا مُخيّرةً إلى العروض عبر الإنترت لسد الفراغ الحاصل ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل سطوة الوباء وعدم قدرة البشر على اللقاء والتجمّع.
بادرة أمل
في فترة معينة من العام الماضي، تحديداً بعد تحدي "موسترا" البندقية لكورونا في سبتمبر (أيلول) الماضي، كان الأمل قد عاد إلينا بعض الشيء. دورة البندقية انعقدت بنجاح تام، تحت شروط التباعد والوقاية والتدابير الاحترازية الصارمة، مستفيدةً من كون ليدو البندقية (حيث يجري المهرجان) جزيرة معزولة ويمكن التحكّم بالداخلين إليها. وشكّلت الأفلام المعروضة مادة دسمة لمهرجانات صغيرة عُقدت من بعده، سواء افتراضياً أو فعلياً. إلا أن العودة القوية لكورونا مع بداية الشتاء جعلت الدول الكبرى تعيد النظر في أولوياتها وحساباتها، وكما هي الحال دائماً الثقافة هي الضحية الأولى لأي إجراء. فمهرجان برلين (واحد من أهم ثلاث تظاهرات سينمائية في العالم مع كان والبندقية)، الذي كان أعلن أنه سينظم دورة فعلية من 11 إلى 21 شباط (فبراير) الماضي، بعدما اعتقد منظموه أن كورونا سيصبح في خبر كان مع دخول عام 2021، عاد وتراجع عن هذه الخطوة بعد إعلان الحكومة الألمانية عن حزمة إجراءات جديدة لمواجهة الوباء.
ألمانيا على غرار دول أوروبية كثيرة لا تزال في الصف الأول في محاربة الوباء، وصالات السينما مقفلة حتى إشعار آخر، و"لا بد من حماية صحة الضيوف"، كما صرّحت مديرة برلين مارييت ريسنبيك. ما الخيار إذاً بعد التراجع؟ لا خيار سوى دورة ستُقام على مرحلتين: الأولى افتراضية من 1 إلى 5 مارس (آذار) المقبل، أما المرحلة الثانية فستكون جماهيرية وستُقام في عز الصيف 9 - 20 يونيو (حزيران). هذا ما وجده المهرجان مناسباً للظروف الحالية. إذاً، البرليناله الذي كان "وفّره" الكورونا العام الماضي، يعود ويقع في شباكه هذا العام، ولا يجد سوى البديل الإفتراضي لعرض الأفلام التي كان اختارها طوال الأشهر السابقة للحدث. بالتالي سيتعين على الصحافيين الذين اعتادوا تغطية التظاهرة ميدانياً الجلوس في بيوتهم وقبالة شاشاتهم لمشاهدة أحدث الأفلام والكتابة عنها، في حين سينظم عدد من المقابلات عبر زوم. طبعاً، ليس هذا ما كانت تتمناه إدارة البرليناله، ولكن حتى هذه اللحظة لا يوجد الكثير من الخيارات.
برلين ليس المهرجان الدولي الوحيد الذي أُرغم على تعديل شكل الدورة منذ مطلع هذا العام. فقط في الشهر الأول من 2021 أُلغيت النسخة الحضورية لثلاثة مواعيد سينمائية غربية بارزة: ساندانس الأميركي، روتردام الهولندي وكليرمون فيران الفرنسي. عندما نقول "أُلغيت"، هذا يعني أن الدورة أُقيمت لكن افتراضياً. ولكن تقاليدنا الكلامية لا تسمح بعد بتبني الأدبيات الجديدة بالسهولة نفسها التي يقدم فيها منظمو المهرجانات على "تحديث" مفاهيمهم، عندما يلفظون مثلاً، وبثقة عالية في الذات، عبارة "فورما جديدة" عند الحديث عن النسخ الافتراضية من مهرجاناتهم. فالجميع بات يعلم أن هذا كله مفروض علينا فرضاً، وليس نتيجة أي تطور طبيعي أو خيار.
العالم الإفتراضي
مهرجان سانداس (28 يناير/ كانون الثاني - 3 فبراير/ شباط) الذي يُعتبر معقل السينما المستقلة، نقل إذاً في دورته الأخيرة مجمل نشاطه إلى العالم الافتراضي، بعدما وصل عدد الوفيات جراء انتشار الكوفيد إلى ما يقارب النصف مليون ضحية في أميركا. لم يتوجّه المنتجون والنجوم والصحافيون إلى جبال يوتا المغطاة بالثلوج كي يشاهدوا آخر صيحات السينما المغايرة بتوقيع سينمائيين شباب، بل تابعوا هذا كله من خلف شاشاتهم. 72 فيلماً عُرضت في دورة سمحت للجمهور العريض أن يتابع الأفلام والأنشطة مقابل شراء بطاقة. كذا بالنسبة لمهرجان روتردام الذي اختار أن يحذو حذو برلين (في الحقيقة روتردام سبق برلين في الإعلان عن هذا الخيار) عبر اقتراح فكرة "مهرجان على مرحلتين"، الأولى عُقدت من الواحد إلى السابع فبراير، والثانية ستكون من 2 إلى 6 يونيو، على أمل أن ينتهي الكورونا في الصيف، وهي الفرضية التي يبدو كلّ يوم مستبعدة نظراً للوتيرة البطيئة التي تتطور فيها عملية التلقيح. مع التذكير أن المهرجان كان من المفترض أن يحتفي هذا العام بعيده الخمسين، لكن ذهب الاحتفاء أدراج الرياح. إلا أن روتردام لا يستسلم ويتأمل أن يعيد البريق إلى المدينة الصيف المقبل عبر خمسينية المهرجان، واستضافة بعض السينمائيين الذين صنعوا مجده. طبعاً، مرة أخرى، كل شيء يتوقف على كورونا وتطوره.
تبقى الحالة المميزة مهرجان كليرمون فيران (29 يناير - 6 فبراير) الذي لطالما اعتبره الخبراء "مهرجان كان الفيلم القصير". فهذه التظاهرة المخصصة حصراً للفيلم القصير التي تأسست قبل 43 عاماً، هي فعلاً محج للجمهور المحلي الذي يملأ الصالات طوال اليوم منذ الساعة العاشرة صباحاً. هناك كل عام نحو 180 ألف مشاهد يأتي إلى المهرجان، وهو الشيء الذي كان دائماً مصدر فخر لهذا الحدث الشعبي الكبير الذي بدأ كفكرة بسيطة بين رفاق. في البداية، أصرت الإدارة على مهرجان يكون خليطاً من الحضوري والافتراضي، ثم فجأةً ثلاثة أسابيع قبل موعد الانطلاق أرغمتها قرارات الحكومة إلى الاكتفاء بنسخة "أونلاين فقط" كما كُتب في الرسالة الإلكترونية الحزينة التي أُرسلت إلى الصحافة. في الرسالة نفسها، ورد الآتي: "سنكذّب عليكم إذا قلنا إننا لا نشعر بحرقة في القلب بمجرد أن نتصوّر بداية شهر فبراير من أي عام، من دون هذه المعجزة التي هي حشد من الناس يركضون من صالة إلى صالة لمشاهدة أفلام قصيرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أخيراً، لا يمكن الحديث عن الارتباك الحاصل في المهرجانات من دون الحديث عن كان. السؤال الذي ليس عليه رد واضح هو: هل ستُعقد دورته الـ74؟ كان من المفترض أن ينظّم المهرجان دورته المقبلة في منتصف مايو (أيار)، بعد دورة العالم الماضي التي أُلغيت، ثم في نهاية الشهر الماضي علمنا أن ثمة تاريخاً جديداً للحدث السينمائي الأضخم في العالم: 6 - 17 يوليو (تموز) 2021، أي في عز الصيف، ذروة موسم السياحة والعطلة السنوية، ما جعل الكثير من المهنيين يشتكون من الأسعار المرتفعة التي يجب عليهم دفعها لاستئجار بيوت يقطنون فيها خلال أيام انعقاد المهرجان. لا شك أن الإدارة اعتبرت أن هذا التأجيل سيريحها وسيمنح لها بعض الوقت الإضافي في حال كان الكورونا لا يزال في الأجواء وكانت قيود السفر والتنقّل قائمة، علماً أن فرنسا من حيث العدد لا تزال في أسفل قائمة الدول التي لقّحت مواطنيها! الآن، كثر يتساءلون، ما البديل إذا لم ينتهِ كورونا في يوليو، هل يجوز تأجيل كان الذي له أهمية قصوى لدوران العجلة السينمائية، أبعد من ذلك التاريخ؟ فالبندقية في مطلع سبتمبر، ولا يمكن تنظيم مهرجانين كبيرين في تاريخين متقاربين إلى هذا الحد.
مهرجان كان الذي رفض العام الماضي أن ينقل نشاطه إلى العالم الافتراضي، معتبراً أن المهرجان هو قبل كل شيء احتفال وتجمع بين الناس وسجادة حمراء، وجد نفسه أمام وضع لا يُحسد عليه، قد يرغمه إلى اللجوء إلى ما لا يحبذه. وقد تم تسريب بعض المعلومات عن طريق المخرج بول فرهوفن خلال حوار له في برنامج إذاعي تقول إنه ليس من المؤكد أن المهرجان سيُعقد في يوليو، وقد يؤجل إلى أكتوبر (تشرين الأول). في المقابل، مهرجان كبير ككارلوفي فاري (أهم حدث سينمائي في أوروبا الوسطى)، صرح أنه سيبقى على موعده بين 2 و10 يوليو، على الرغم من أنه يتضارب مع موعد كان. فبالنسبة للمهرجان التشيكي الجمهور هو أهم شيء (100 ألف مشاهد في آخر دورة)، وإرضاؤه أولوية الأولويات، وفي حال تم إرجاؤه لاحقاً فالسبب الوحيد سيكون توفير مناخ أفضل لهذا الجمهور الذي تكتظ به الصالات.