يمثل دعم المواد الأساسية في تونس عبئاً على ميزانية الدولة، إذ بلغ في موازنة السنة الحالية 2.4 مليار دينار (نحو مليار دولار)، وبعد 2011، مع تقلص دور أجهزة الرقابة، أصبحت منظومة الدعم مجالاً متاحاً للفساد والمضاربة والتهريب.
وتعد صناعة الخبز أحد القطاعات التي يرتع فيها المتحيلون على الدولة باسم منظومة الدعم، من خلال توجيه الطحين المخصص لصناعة الخبز إلى منتجات أخرى وبيعها بأسعار باهظة.
وهناك مخابز، خصوصاً في المناطق الداخلية تبيع حصصها من الطحين، الذي تتسلمه مدعوماً من الدولة ليُستخدم في غير صناعة الخبز.
ينظم هذا القطاع قانون قديم، يعود إلى سنة 1956، (وقد عدل مرات)، تمنح بمقتضاه الدولة ترخيصاً وبطاقة احتراف للمخابز، بعد معاينة وزارتي الصحة والتجارة المعايير المضبوطة بدفتر شروط، في المقابل، يتمتع أصحاب المخابز بالطحين المدعوم المخصص لصناعة الخبز العادي.
تجدر الإشارة إلى أن أصحاب المخابز يحصلون على قنطار (100 كيلو غرام) من الطحين مقابل ستة دنانير (دولاران) فقط، بينما سعره الحقيقي قرابة 100 دينار (33 دولاراً)، ويحصلون على 24 ديناراً (8 دولارات) مقابل كل قنطار من الطحين، تحت عنوان مستحقات الدعم، علماً أن الحصة الشهرية من الطحين لكل مخبز هي نحو 118 قنطاراً.
وفي المحصلة، يجني كل صاحب مخبز من الدولة شهرياً دعماً مادياً يُقدر بنحو 2124 ديناراً (708 دولارات)، إضافة إلى تمتعه بالطحين مجاناً لصناعة الخبز، والحال أن نسبة كبيرة من هذا الطحين تُباع في السوق السوداء.
مافيات
يلفت أيوب بالعيد، الذي يعمل في قطاع المخابز منذ ثماني سنوات، إلى تجاوزات بالجملة في هذا القطاع، كاشفاً عن أن عدداً كبيراً من أصحاب الرخص أغلقوا محالهم لصناعة الخبز، بينما يتمتعون شهرياً بالدعم ويبيعون حصصهم من الطحين إلى مخابز أخرى لا تتمتع بالدعم الكامل.
ويشير إلى أن صاحب مخبز مغلق بعيد من عيون الرقابة، يمكنه أن يحقق أرباحاً شهرية تتجاوز ستة آلاف دينار (2000 دولار) من خلال تمتعه بالدعم المادي من الدولة وبيع حصته من الطحين في السوق السوداء.
في المقابل، ينفي محمد بوعنان، رئيس الغرفة الوطنية لأصحاب المخابز التابعة للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة هذه الممارسات، ويلفت إلى أن القطاع الذي يضم 3200 مخبزاً مصنفاً يشغل 32 ألف عامل.
ويثير بوعنان معضلة المخابز العشوائية، التي تنتشر في مختلف المناطق، بعيداً من عيون الرقابة، وهي تتمتع بالطحين المدعوم بنسبة 50 في المئة، بينما يُستغل في صناعة المرطبات والخبز الرفيع، وهو ما يضر بالقدرة الشرائية للمواطن، داعياً إلى رفع الدعم كليا عن هذه المخابز.
ولا ينفي بوعنان أن المخابز العشوائية تتلاعب بالميزان، ولا تحترم الشروط الصحية، آملاً أن يتوجه المستهلك إلى المخابز المصنفة والقانونية.
إزاء ذلك، يصف عبد الكريم محرز، رئيس الغرفة الوطنية للمخابز العصرية والمرطبات، حال القطاع بالفوضى، ولا يتردد في القول إن "هناك مجموعات نافذة تستفيد من خلال استحواذها على دعم الدولة والتصرف به"، ويصف بعض أصحاب المخابز بـ "المافيات".
ويدعو محرز الدولة إلى "تحمل مسؤولياتها وتنظيم القطاع، من خلال تحريره باعتبارنا في اقتصاد السوق".
قانون الدعم لم يواكب التحولات
ويعود نظام دعم القدرة الشرائية للمواطن إلى السبعينات من القرن الماضي، وكان يُسمى "نظام التعويض"، وعلى الرغم مما شهدته تونس من تحولات، لم تتغير منظومة الدعم، ولم تواكب ما تعيشه تونس اليوم من اقتصاد السوق ونظام العرض والطلب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتلاحظ المتخصصة في الشأن الاقتصادي جنات بن عبد الله، أن "خلل منظومة الدعم يكمن في أن الدولة التونسية تتولى توريد القمح اللين من طريق الديوان الوطني للحبوب، وعدد من الخواص، ثم يتولى متدخلون آخرون من القطاع الخاص (معظمهم من عائلات معروفة) تأمين الحلقات الأخرى، وهو ما يفتح الباب أمام الاحتكار والفساد، من خلال التصرف المباشر في موارد الدولة وسط ضعف هياكل الرقابة وتراجع أدائها".
وتضيف بن عبد الله، "هذا الواقع يتناقض مع اقتصاد السوق، الذي يفرض نظام العرض والطلب، وهو ما فتح المجال أمام المحتكرين والمضاربين في مادة حيوية"، لافتة إلى أن "هؤلاء هم من استفاد من الدعم بدلاً من المواطن"، وتدعو بن عبد الله "أجهزة الدولة إلى توجيه الدعم للإنتاج وليس للاستهلاك، لأن أكثر من 90 في المئة من حاجيات تونس من القمح اللين تُستورد من الخارج بالعملة الصعبة، وهو ما يعني أن الدعم موجه إلى الشركات الأجنبية وليس إلى مستحقيه في تونس".
ووفق بيانات أوردها المرصد الوطني للفلاحة، بلغت تكاليف توريد القمح اللين 614.5 مليون دينار (228.8 مليون دولار) في العام 2020.
تدمير المالية العمومية
ويدعو وزير التجارة السابق محسن حسن إلى معالجة جذرية لمنظومة الدعم التي أسهمت في انزلاقات خطيرة على مستوى المالية العمومية، مشيراً إلى أن ارتفاع نفقات الدعم بين 2010 و2020 غير مبرر، لأن الدراسات تؤكد أن الدعم يذهب إلى غير مستحقيه (80 في المئة من الدعم ينتفع بها 20 في المئة من مستحقيها).
ويدعو أيضاً إلى أن تتسلح الدولة بالجرأة المطلوبة لإصلاح هذه المنظومة، قائلاً إن "حكومات ما بعد 2011 وضعت في برامجها إصلاح منظومة الدعم، إلا أنها لا تستطيع ذلك لأسباب اجتماعية"، ويؤكد حسن أن الدولة غير قادرة على مواصلة هذا المسار في مواجهة الضغوط الاجتماعية، معتبراً أن معالجة هذه المعضلة تتم من طريق التحويلات المالية المباشرة إلى مستحقي الدعم مع ضرورة حوكمة دعم الطحين وترشيده من خلال منظومة معلوماتية متطورة لمحاصرة المحتكرين.
وجاءت تونس في المرتبة 69 عالمياً من مؤشر مدركات الفساد لسنة 2020، وهو ما يعكس نقصاً فادحاً في مقومات الحوكمة والشفافية، خصوصاً في القطاع العام، وأسهم ضعف مؤسسات الرقابة خصوصاً بعد 2011، في تنامي ظواهر الاحتكار والتهريب والفساد التي تنخر مختلف القطاعات ومن بينها قطاع المخابز، وعجزت الحكومات المتعاقبة عن فتح هذا الملف، لما يحيط به من حساسية اجتماعية، لارتباطه بالمادة الأكثر استهلاكاً من قبل التونسيين، إضافة إلى أن هذه المادة أشعلت فتيل أزمات اجتماعية عدة في القرن الماضي.