بعد رفضها أية تدخلات خارجية في شأن إقليم "تيغراي"، وافقت الحكومة الاتحادية في إثيوبيا على إجراء تحقيقات دولية مشتركة في شأن وقوع انتهاكات حقوق الإنسان في الإقليم، بينما لا تزال تصر على أن شن عمليات عسكرية في الإقليم في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي جاء على خلفية إنفاذ سيادة القانون، محملة جبهة تحرير "تيغراي" القيام باعتداء على قوات الدفاع الوطني وتقويض النظام الدستوري، وجاء هذا الترحيب بعد ثلاثة أشهر من مطالبة الأمم المتحدة بفتح تحقيق مستقل في جرائم حرب محتملة في الإقليم، مع إنكار الجانبين التهم الموجهة إليهما.
تسلسل التصعيد
وأثار أمر آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي توجيه ضربات عسكرية لـ "تيغراي" صدمة المجتمع الدولي، خصوصاً بعد تصريحه بأن بلاده قادرة على تحقيق أهداف عمليتها العسكرية في ولاية "تيغراي" المتمردة بنفسها. ورأت أصوات دولية أن ذلك يتعارض مع توقيعه اتفاق السلام مع إريتريا في عام 2018، ما أهلّه للحصول على جائزة نوبل للسلام في 2019. وعلى إثر ذلك، طالبت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشيليت بفتح تحقيق مستقل وشامل، محذرة من أن العنف في الإقليم وما تردد من ارتكاب إبادة يمكن أن يصل إلى حد جرائم الحرب.
وبعد أن وصل مسرح العمليات العسكرية في إثيوبيا لتصعيد متسلسل، وبالنظر إلى توجه آبي أحمد باستبعاد أي تدخل خارجي، ثم مطالبته بفتح تحقيقات دولية، فإنه من غير المرجح أن تحقق خطوته هذه مكاسب بعيدة المدى، إذ ظل يعتمد بشكل متزايد على سمعته الدولية للحفاظ على موقعه، كما أنه من الصعب أيضاً تحديد النجاح عندما يكون للتدخل أهداف متعددة أو متضاربة.
وكانت مقالة كتبها آبي أخيراً في "بروجيكت سنديكيت" في السادس من فبراير (شباط) بعنوان، "نحو نظام سلمي في القرن الأفريقي"، تحدثت عن "آمال تنبع من التخلص إلى الأبد من جبهة تحرير شعب "تيغراي" الفاسدة والديكتاتورية"، موضحاً أنه "لا ينكر أن التخلص من جبهة تحرير شعب تيغراي قد أجج عدم الارتياح في المجتمع الدولي، إذ تتزايد المخاوف في شأن التنميط العرقي هناك، والعقبات التي تعترض الإغاثة الإنسانية"، لكنه ناشد الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الدولية للعمل مع حكومته لتقديم الإغاثة الفعالة لكل من يحتاج إليها في هذا الإقليم.
عواقب محتملة
ومع استمرار الحرب، ازداد قلق المجتمع الدولي في شأن العواقب المحتملة المزعزعة للاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، ففي نظر المجتمع الدولي، يبدو أن صراع "تيغراي" في جوهره مدفوع بتطلعات آبي أحمد، حتى أنه عمل على تحييد المراقبين الإقليميين خوفاً من تدخلهم وإسهامهم في إعادة تشكيل المنطقة بحسب رؤيتهم ومصالحهم التي تتعارض في أغلبها مع مصالحه، كما يتضح من تجارب عمليات السلام في الدول الأفريقية أنها اتخذت مساراً معاكساً نسبة للتأثيرات السريعة قصيرة المدى، فقد كانت هناك علاقة بين ضعف آليات التحقيقات الدولية وشدة وتيرة النزاع، كما أن الثقة في الإدارات الأهلية أضعفت تعاطي السياسة العامة لبعض أنظمة الدول الأفريقية مع المجتمع الدولي، إضافة إلى أن معظم رؤوس نُظمها منبوذون وتدور حولهم شبهة الضلوع المباشر في هذه النزاعات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن مع ازدياد تسليح الجماعات الأفريقية وتسيس زعماء القبائل، تضعضعت الثقة فيها، ووصلت النخبة إلى قناعة أن التدخل الدولي يمكن أن يكون بمثابة وسيط للحد من التناحر بين الجماعات المسلحة والحكومة، لكن يجب التركيز على البعد ذي الصلة بتحليل تطور التحقيقات الدولية، وهو الانتباه لتوقيت الوسائل المستخدمة وغاياتها التي يمكن تغييرها كل فترة، وهي المنضوية تحت المصلحة الدولية من التدخل لإجراء التحقيق، كما أن تجربة التعامل في نزاع معين في المنطقة قد لا تكون صالحة على الدوام لواقع الدول الأخرى، وهو ما لا ينفع معه فرض المعايير الدولية لوقف التصعيدات.
تحديات التحقيقات
في ظل الحالة المحفوفة بالمخاطر للوضع في إثيوبيا في فترة الصراع بين الحكومة الاتحادية الإثيوبية وجبهة تحرير "تيغراي"، تواجه التحقيقات الدولية تحديات عدة، أبرزها ما ظهر في سياق الانقسامات السياسية العميقة وانعدام أية بوادر سلام بين الحكومة الاتحادية والجبهة، إذ ستسعى الأخيرة إلى الحماية من حكم الأولى، ويمكنها أن تغير موازنة آبي أحمد بأن تحصل على مسار جديد يكون بمثابة ضمان لاحترام مطالبها لإدخال ترتيبات تقاسم السلطة.
أما من ناحية آبي أحمد، فتجيء مطالبته من واقع أن التدخل الدولي أصبح القاعدة السائدة وأنه لا مفرّ منه، كما تثبت مطالبته الأخيرة الاطمئنان على سلامة موقفه وأن ليس لديه ما يخفيه، وهنا يضع الجبهة في محل الاستعداد للاتفاق على أية تسويات مُحتملة، حتى وإن لم تكن مُرضية لها، وتحويل اللوم إليها في ما يكن من تعقيدات، بأنه من بادر إلى إعطاء الضوء الأخضر، وإن حدثت أية عوائق، فإنها ستكون من الجبهة وليس منه.
وبينما تتعرض الدولة لهزة ديمقراطية، يريد آبي أحمد أن يكون في حل من تعليق الاتهامات بتقويض الديمقراطية على إجراءاته بتأجيل الانتخابات أكثر من مرة، وقد يؤدي التدخل الخارجي إلى تحسن ضئيل في ما يتعلق بوقف النزاع، بيد أن تأثيره على الممارسة الديمقراطية في إثيوبيا سيكون كبيراً، ولكن فقط في حال إسهامه في بناء السلام الذي يعمل على ترسيخ الديمقراطية.
كان بإمكان التدخل أن يلعب دوراً حاسماً في المراحل المبكرة من هذا النزاع، بما سيوفره من تشكيل للمواقف التي تتخذها جبهة "تيغراي" ورد فعل الحكومة الاتحادية، أما الآن، فإنه قد لا يكون لمصلحة آبي أحمد، إذ يمكن أن يقود إلى تقرير المصير، فأي تدخل دولي لا بدّ من أن تكون له تبعاته، ولكنه يراهن على عملية المساومة في هذه اللحظة حتى قيام الانتخابات، حتى ولو أدت التسوية إلى صراعات عنيفة في المستقبل.
تباين التطبيق
ووفرت اللجنة الدولية لتقصي الحقائق منذ بروتوكولها الأول العام 1977 المضاف إلى اتفاقات جنيف العام 1949، للتحقيق في جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، وحتى قبول 76 دولة باختصاصها العام 2015، آلية مستقلة للتحقيق في الوقائع المتعلقة بأي ادعاء خاص بانتهاكات خطيرة للقانون الإنساني كما حددته الاتفاقات الدولية، وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة للتحقيقات في الانتهاكات المزعومة، فليست هناك آليات ثابتة في شأن تطبيق معايير ومبادئ وأحكام القانون الدولي في كل الدول في حال النزاعات المسلحة، بل ظل التباين في التطبيق هو السمة السائدة في أغلب الأحوال.
وربما يراهن آبي أحمد على أن ما حدث من تحقيقات في نزاعات إقليمية قريبة مثلما حدث في الصومال والسودان وراوندا وأفريقيا الوسطى وغيرها، إذ على الرغم من تأجيله إقامة الانتخابات، لا يزال يعدّ نفسه ممثلاً لنظام ديمقراطي، بينما معظم تلك الدول جرت التحقيقات فيها في ظل نظم ديكتاتورية.
أما رهان آبي أحمد الأكبر فهو على عامل الزمن، فعلى الرغم من تمتع اللجنة بتفويض التحقيق في الانتهاكات الجسيمة والخطيرة الأخرى لاتفاقات جنيف، إلا أن الثغرة التي ربما تقزم من سعيها نحو إيجاد حل هي أن التقرير الذي ستحصل عليه من نتيجة التحقيق لن تعلنه "ما لم تكن جميع أطراف النزاع قد طلبت ذلك، أو إذا ما وجدت أن الدولة الخاضعة للتحقيق لم تفعل شيئاً إزاء الانتهاكات"، وإلى أن يحين أجل الإعلان سيكون من مصلحة الطرفين الدخول في حوار لتحقيق حل تفاوضي، ولكن سيحدد فيه الطرف الأقوى مساحة الحلول المقبولة بالنسبة إليه.
رمال متحركة
ونظراً لعدم جاهزية الحكومة الإثيوبية للتعامل مع القيود التي يمكن فرضها مع التدخل الدولي للتحقيقات واحتمال مواجهته من الداخل، فإن صلاحيات استيعابه قد تكون محفوفة بالمخاطر مثلما هي محفوفة بالشكوك الآن، وربما يستدعي الطابع الداخلي للنزاع الاتجاه نحو خلق حل تفاعلي بين ثنايا مقترحات تعتمد على اتخاذ إجراءات فورية من قبل أطراف النزاع.
وبينما تقتصر الأهداف المباشرة على تحسين التفاهم المتبادل وإنشاء خطوط اتصال رسمية وغير رسمية، فإن جهود حل النزاع لا ينبغي اعتبارها ناجحة من دون إدخال عنصر إقناع كل طرف بالكشف عن حقيقة نقاط دوافع تحركه لتؤهل المجتمع الدولي للإيفاء بمطالب المتأثرين بالنزاع، وليس من السهل الرجوع إلى بداية الأزمة بالبحث في ملابسات الظروف المحيطة بنزاع "تيغراي"، فضلاً عن الرجوع للقضية الإثنية للوصول إلى فهم دقيق لطبيعة هذا النزاع الذي ربما لو تمّ حلّه فسينفجر نزاع إثني آخر.
هناك مشكلة أخرى تتعلق بالجوانب الداخلية للنزاع، مثل كل النزاعات بين الحكومات والجماعات المسلحة في إطار الدولة الأفريقية الواحدة، وهي عدم المساواة بين الطرفين المتنازعين، إذ غالباً ما يكون الطرف الحكومي هو المفاوض الأقوى وغير معترف بمطالب الطرف الآخر الذي يقف على رمال متحركة.