لم يبقَ فيلسوف وعالم اجتماع في التاريخين القديم والحديث لم يتناول المدينة على أوجهها المختلفة، لكن أشهر هؤلاء أصحاب المدينة الفاضلة كأفلاطون، في كتابه "الجمهورية"، والفارابي الذي رأى أن على المدينة أن توفر السعادة لسكانها عبر اجتماعهم، لأن الإنسان لا يمكن تحقيق معاشه بمفرده، ورأى أن الخير والكمال الأقصيين إنما ينالان أولاً بالمدينة، كعمران لا بالاجتماع البشري نفسه، فهو يأتي ثانياً بعد العمران.
وقد كانت المدينة القديمة امتداداً للريف الزراعي، واعتمدت على المحاصيل الزراعية التي ينتجها الريف المحيط بها. بينما بنى المدينة الحديثة الحرفيون والتجار والإداريون، وبإرادة محددة من مهندسين، وكثير منهم اكتسبوا شهرة كبيرة تاريخياً وحديثا، وهؤلاء المهندسون أو البناءون طوروا المدينة عبر القرون بسبب ازدياد عدد سكانها وحاجاتهم والخدمات التي يتطلبها اجتماعهم في مكان واحد، لتصبح على ما عليه اليوم.
حين تمتلئ المدن
غالباً ما كان الانتقال للعيش في المدينة حلماً لأصحاب الطموح من أهل الريف. فهي مصدر الرزق ومكان الزحام والتقاء أنواع مختلفة من الثقافات والأعمال، عكس حياة الزراعة والرعي في الريف ولا تحمل طموحاً مستقبلياً يذكر لسكانها، لذا لم يتوقف النزوح إلى المدن منذ الثورة الصناعية قبل قرنين. وعلى سبيل المثال، راقبت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) توسع المدن لدراسة آثاره البيئية، وكانت النتيجة أن عدداً كبيراً من مدن العالم زادت مساحتها بنسبة 25 في المئة ما بين عامي 1990 و2000، الأمر الذي يكشف عن حجم التحدي الذي تواجهه المدينة المعاصرة. أما توقعات البنك الدولي فإن المدن ستضم 80 في المئة من سكان العالم خلال العقدين المقبلين. وبحسب إحصاءات حديثة صادرة عنه، يعيش في المدن حالياً نحو 55 في المئة من سكان العالم، أي 4.2 مليار نسمة. وبحلول عام 2050، سيزداد سكانها بأكثر من ضعف العدد الحالي، بحيث سيعيش 7 من بين كل 10 مواطنين في العالم بالمدن.
وفي ظل مساهمة المدن بأكثر من 80 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، يمكن للتوسع الحضري أن يسهم في تحقيق النمو المستدام إذا ما تمت إدارته بحكمة. وبحسب الدراسات الحضرية فإن سرعة توسع المدن ونطاقها يحملان معهما تحديات، بينها تلبية الطلب المتسارع على الإسكان ميسور التكلفة، وتوفير أنظمة نقل ومواصلات مترابطة والكثير من مرافق البنى التحتية والخدمات الأساسية، فضلاً عن تأمين العمل للوافدين الجدد، ومنهم 60 في المئة من النازحين قسراً بسبب الحروب والصراعات نحو المدن وعلى رأسها العواصم. ودائماً بحسب نصائح وتوجهات البنك الدولي.
أما مارتينا أوتو، رئيسة وحدة المدن في الأمم المتحدة للبيئة فتقول "نحن نمر بنقطة تحول، ومن المسلم به على نحو متزايد أن التخطيط الحضري أمر بالغ الأهمية، إلا أننا نفتقر إلى القدرة على التخطيط له في العديد من الأماكن"، وبرأيها، فإن ما نحتاج إليه هو "ثورة تخطيط" تنتج مدناً ذات هيكل استراتيجي. وبحسب فريق المتخصصين، الذي أنشأته الأمم المتحدة للبيئة، فإن الطلب الحضري على الموارد يمكن أن يرتفع بنسبة 125 في المئة بحلول عام 2050، ومن المتوقع بناء ما لا يقل عن 200 مدينة جديدة في آسيا خلال السنوات الثلاثين المقبلة.
المدن الذكية
لكننا لا نريد أن نجعل أمر المدن قاتماً، فهناك أفكار للمستقبل أيضاً في جميع أنحاء العالم حول بناء مدن ذكية صديقة للبيئة وتتمتع بهندسة وعمران أقرب إلى الخيال العلمي، والهدف منها هو تأمين الرفاه والسعادة لسكانها، لكن ما المدن الذكية المستقبلية؟ وما طبيعتها؟
بحسب الموسوعة البريطانية، فإن المدينة الذكية هي منطقة حضرية تستخدم أنواعاً مختلفة من الأساليب الإلكترونية وأجهزة الاستشعار لجمع البيانات، وتستخدم النتائج المكتسبة من تلك البيانات لإدارة الأصول والموارد والخدمات بكفاءة. ويتضمن ذلك البيانات التي تم جمعها من المواطنين والأجهزة والمباني والأصول، لتتم معالجتها وتحليلها بعد ذلك لمراقبة وإدارة أنظمة المرور والنقل ومحطات الطاقة والمرافق وشبكات إمدادات المياه والنفايات وكشف الجرائم وأنظمة المعلومات والمدارس والمكتبات والمستشفيات والخدمات المجتمعية الأخرى. ويدمج مفهوم المدينة الذكية بالضرورة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والعديد من الأجهزة المادية المتصلة بشبكة إنترنت الأشياء لتحسين كفاءة عمليات وخدمات المدينة والاتصال بالمواطنين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما على الصعيد البشري المباشر، فإن المدن الذكية تمتلك مؤشرات ذات آثار إيجابية قابلة للقياس على نوعية حياة مواطنيها وزوارها. ويعد الإطار البشري للمدينة الذكية ورضا مواطنيها عن مستوى معيشتهم والخدمات المؤمنة لهم من قبل السلطات، مؤشراً مهماً على نجاحها.
ولا تعد المدينة ذكية من دون دعم المبادرات الفنية والثقافية، بل يدخل هذا الأمر في صلب تخطيطها. ومن ضمنها دعم المبتكرين والمثقفين على اختلاف أنواعها وإنشاء المراكز التي تؤويهم وتعرض أعمالهم. وعلى المدينة الذكية أن تدعم التعليم فيها بشكل أساسي لإنشاء يد عاملة متعلمة قادرة على إدارة النظم التي تقوم عليها.
والإنسانية بمعناها الشمولي أحد أسس التفكير في المدن الذكية الحديثة، أي منع أي وجه من أوجه العنصرية على أي مرتكز قامت، سواء العرق أو الدين أو اللون، أو غير ذلك. وتعمل المدن الذكية على دمج مواطنيها دمجاً فعلياً، لا مواربة فيه، ولا تترك مجالاً لأي نوع من التمييز بينهم.
وأخيراً، على المستوى البشري في المدن الذكية هناك دعم المعرفة وتطوير اقتصادها، فالمدن الذكية تسعى إلى أن تكون مراكز للنشاط الاقتصادي في قطاعات التكنولوجيا والخدمات الناشئة على قيمة الابتكار في تنمية المدينة.
هل هناك مدن ذكية في وقتنا الحاضر؟
بدأت بعض المدن بالظهور منذ أوائل القرن الحالي، وهي أقرب ما تكون من حيث الشكل والمضمون إلى الخيال، ففي ولاية جوهر الماليزية، هناك مشروع ضخم يمتد على أربع جزر من صنع الإنسان، ويتمحور على تخطيط مدني متعدد الطبقات وثلاثي الأبعاد. وفي السعودية تسعى مدينة نيوم التي تبنى على شاطئ البحر الأحمر كي تكون مدينة مستقبلية من كل الوجهات. وسيكون في هذه المدينة الكثير مما رأيناه في أفلام الخيال العلمي، مثل سيارات الأجرة الطائرة، والروبوتات المنزلية، وجزيرة الديناصورات الآلية على طراز الحديقة الجوراسية، والشواطئ الرملية المضيئة، والسحب الاصطناعية التي تتحدى الطبيعة الصحراوية.
أما في السنغال يتم إنشاء مدينة تحمل اسم "ديامنيادو ليك" بتكلفة ملياري دولار. وهي تشبه إلى حد بعيد مدينة "واكانا" في فيلم "الفهد الأسود"، مع الهندسة المعمارية المميزة والمباني الفولاذية المتلألئة.
وهناك أيضاً مدينة "كونزا تكنو سيتي" في كينيا، ويراد لها أن تكون وادي سيليكون أفريقياً، ومن المفترض أن تمثل مركزاً للصناعات التكنولوجية في شرق القارة السمراء، بحيث تضم حديقة للعلوم ومراكز تسوق ومقار لشركات التعهد الخارجي وفنادق ومدارس دولية.
ثم لن ننسى مدينة دبي التي بنيت أساساً لكونها مدينة ذكية، ويتم تطويرها بشكل دائم ومتواتر كي توائم صورة المدينة المستقبلية، سواء هندسياً وعمرانياً أو من حيث الخدمات والبنى التحتية والحفاظ على البيئة.
وفي اليابان، تقام تجربة مصغرة لمدينة ذكية مستقبلية، تدعى مدينة فوجيساوا، بنيت على أنقاض مصنع "باناسونيك" قديم، ويعيش فيها نحو 2000 شخص.
أما ما يجعلها ذكية فهي أسباب كثيرة، أولها أن كل منزل في هذه المدينة الصغيرة مجهز بألواح شمسية وأنظمة مراقبة ذكية لاستهلاك الطاقة، ما يتيح للمقيمين تتبع استهلاكهم للطاقة، ويمكن للسكان الفوز بمكافآت وجوائز مع تكريم خاص لكل من يسهم في تقليل انبعاث ثاني أكسيد الكربون. كما يتم تشجيعهم على ركوب الدراجات ومشاركة المركبات الكهربائية. والسكان؛ أي الناس، هم أصحاب الاهتمام الأول والمباشر لدى أصحاب المشروع، لا المشروع نفسه، فالهدف هو تحقيق سعادتهم في هذه التجربة، التي ستصبح مثالاً عن المدينة المستقبلية المقبلة.