تغيب النخبة الجزائرية بشكل لافت عن المشهد السياسي العام، وكأنها غير معنية برسم التحولات التاريخية التي يعشيها البلد، مع تزايد طموحات الشباب إلى التغيير السلمي للوضع الراهن بمجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومطالبه بجرعة جديدة من الحريات والديمقراطية.
وعاد الجدل بشأن النخب، تزامناً مع دخول الحراك الشعبي الذي بدأ 2 فبراير (شباط) 2019، عامه الثالث، إذ لا تزال المسيرات الشعبية تجوب الشارع، في مقابل غياب الوجوه النخبوية، وانعدام شبه تام لطرح مشاريع مجتمعية أو المساهمة في إثراء النقاش المحتدم حول الشعارات الجديدة التي دخلت "قاموس الحراك"، وأثارت انقساماً في وجهات النظر حيالها، وكذا عن أهداف الحراك وآليات ديمومته وقدرته على مجابهة المناورات والتخوين المتزايد.
بين الصمت والهجرة
وفي قراءته حيال الجدل المثار حول دور النخب، يعتقد سمير محرز، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أن "الحراك الشعبي لم يعر الطبقة السياسية فقط، بل حتى النخب الأكاديمية، ووضعها أمام إحراج تاريخي لم يسبق له مثيل، والسبب هو تغييب دورها من طرف النظام السابق، وحصر نشاطها وتحديدها في الجامعة والإقامات الجامعية، وفي الملتقيات العلمية التي لا يخرج صداها إلى الشارع أصلاً".
"هذا الأمر دام فترة زمنية طويلة جداً تتجاوز العشرين سنة إن احتسبنا فترة العشرية السوداء"، يقول المحلل الجزائري، ويوضح "عاشت هذه النخب ضغطاً رهيباً ما جعل الأغلبية تغادر أرض الوطن وتختار الهجرة، في وقت انتهجت البقية الصمت كوسيلة للحفاظ على بقائها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويستشهد محرز، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، بالعهدة الرابعة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، التي سبقت الحراك أي من 2013 إلى 2019، التي "كان واجباً على النخب أن تتحرك ضد تفشي الفساد في كل القطاعات من دون استثناء، خصوصاً الفساد السياسي، حيث لاحظنا أن المجتمع انهار أخلاقياً بتفشي كل الظواهر المرتبطة بالجريمة والقتل والاغتصاب والسرقة والاختلاسات المتتالية على المؤسسات الاقتصادية والبنوك أمام أعين الجميع، ولا أحد يمكنه أن يحرك ساكناً نظراً للفساد المستشري، خصوصاً في قطاع التعليم العالي، ما جعل النخب العلمية والأكاديمية تنتهج نفس النهج الذي اختارته إبان العشرية السوداء، إما الصمت وإما الهجرة".
ويضيف، "عشية انطلاق الحراك في 22 من فبراير (شباط) 2019 وبعد خروج الشعب للشارع خرجت كذلك النخبة، ولا يمكن نكران ذلك، واستطاعت أن تقدم رؤى وحلولاً في بداية الحراك، خصوصاً بعد الفراغ الدستوري الذي صاحب عزل الرئيس ما جعلها تتفاءل بمستقبل البلد، وتقدم كثيراً من التصورات بعد التحرر من ضغط مسؤوليهم".
هذا الأمر لم يدم طويلاً، يضيف محرز "ما لاحظناه عودة تراجع النخبة وصمتها وانعزالها عن المشهد السياسي العام بعد الانتخابات الرئاسية 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ودخولها في صراعات ونقاشات سياسية حول طرف ينادي بضرورة استمرار الحراك، وآخر يدافع من أجل مرافقة الرئيس المنتخب، وما جعل النخبة تزداد تراجعاً وصمتاً هو الجائحة وامتدادها زمنياً لقرابة سنة كاملة ما أدى إلى غيابها الكلي".
ويستنتج الأستاذ الجامعي أن "النخبة العلمية والسياسية والأكاديمية غير قادرة على مواكبة الأحداث والتطورات السياسية التي يشهدها البلد، وأبرز سبب الذي يعتبر نتيجة وتحصيل حاصل في نفس الوقت هو تغييبها وإقصاؤها عن المشهد العام للبلد من طرف السلطة".
غذاء الفتنة والصراعات
على الجهة المقابلة، يرى النائب البرلماني السابق والناشط السياسي محمد حديبي، أن "أزمة الجزائر قبل أن تكون أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية هي أزمة نخب". ويأسف لكونها "لم تلعب دورها الريادي الوطني ليلتف حولها الشعب ويحدث التحول الحقيقي الجاد والهادف بعيداً عن التشنجات التي تقوض أركان التحول أو تهدد استقرار البلد".
ويعتقد حديبي، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن "المرجعية الفكرية الجزائرية لم تكن في مستوى تطلعات شعبها، وكانت دوماً تنحاز إلى الأنا الفردية والبيئة الأيديولوجية". ويذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يعتبر الناشط السياسي أن "النخب كانت غذاء لفتنة وصراعات هامشية وهمية انخرطت فيها بأجندات داخلية وخارجية بعيداً عن مفهوم القيم السياسية وممارستها وقبلت بأدوار غير مقتنعة بها، وورطت أنصارها في مطبات جعلت الشعب يستقيل من الممارسة السياسية، ويسلم الحياة للرداءة والفساد لتستولي عليها".
ويقول "حتى السلطة وجدت نفسها أمام نخبة لا تستوعب التغييرات الجارية، ولا قادرة على لم الشمل وتجميع القوى الوطنية، لذلك استفردت بالقرار، واحتكرت الفعل السياسي من الإعلام إلى آلية التحول الديمقراطي".
ووفق تأكيدات حديبي، فإن "النخب الجادة التي لها أفق واسع والمدركة لثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها قليلة وصوتها مبحوح، وقد تعالت عليها أصوات نخب تقوم بأدوار التشويش والإلهاء والتثبيط، أو أصبحت تمارس ازدواجية الخطاب الأول أمام الشعب في النهار، والثاني وراء الجدران لاقتسام الريع في وقت يغرق فيه الجزائريون في الأزمات".
هذا وتعرف الموسوعة العربية النخب كما تشير مراجع إعلامية بـ"أنها جماعة من الناس أو فئة قليلة منهم تحظى بمكانة اجتماعية عالية الشأن، وتؤثر في الشرائح الأخرى، وتتمتع بسمات خاصة كالقدرات الفكرية والأدبية، أو الوضع الإداري المتميز والعالي، مما يجعلها ذات هيبة عالية ونفوذ واسع الانتشار، وغالباً ما تتشابه في الاتجاهات والقيم ومهارات القوة والاتصالات الشخصية والأسرية".