لطالما كانت الأنهار محل نزاع عبر التاريخ. فكل الشعوب والحضارات تحتاج إلى المياه العذبة كي تتمكّن من البقاء. فهي شرط أساسي للحياة، وأول ما تبحث عنه الدول المستكشفة للفضاء هو الكواكب التي تحتوي على المياه.
والنزاع والوفاق على الأنهار باتا جزءاً من السياسة الدولية في هذا العصر مع ازدياد أعداد البشر والشحّ في المياه، وتلوّثها. لذلك تُعقد الاتفاقات وتُوقّع العقود بين الدول حول كيفية توزيع مياه الأنهار، خصوصاً تلك التي تمرّ في أكثر من بلد.
وما النزاع الحالي الدائر بين إثيوبيا والسودان ومصر حول بناء سد النهضة الإثيوبي على نهر النيل إلا أحد أوجه الصراعات العالمية الظاهر منها والمستتر على مصادر المياه العذبة، التي وصلت إلى الأنهار الجليدية في القطب الشمالي التي تعتبر من أغزر أنهار المياه العذبة على وجه المعمورة منذ اكتشافها.
الأنهار في وجهها الآخر
لكن، الأنهار ليست مجرد ممرات مائية تنبع من مكان وتصب في آخر، هو البحر أو المحيط على الأغلب. بل هي شرايين الحياة فعلياً وليس مجازاً، وهي ستبدو شرايين كوكب الأرض لو نظرنا إليها من الفضاء. وعلى ضفاف الأنهار نشأت أقدم الحضارات ليس فقط لأنها تؤمّن مياه الشرب والريّ والعمران، بل لأنها تحقق أدواراً ثقافية في تبجيل الشعوب للنهر، في العبادات والتعبيرات الأدبية والفنية. وكذلك أدوار اجتماعية في التكاتف بين الساكنين على ضفافها واتفاقهم على توزيع المياه في ما بينهم، ما يؤسس لبناء مجتمعات منظمة، وسبل اقتصادية في التنقّل وفي استخدامها للصناعات والعمران.
على ضفاف الأنهار نشأت المستوطنات البشرية الأولى منذ ما قبل العصر الحجري القديم. ويمكننا على الأقل ذكر حضارات نهر النيل من جنوبه إلى شماله، التي ما زالت أسرارها تُقلق الباحثين حتى اليوم. وحضارات دجلة والفرات أو بلاد ما بين النهرين التي توصف بأنها "مبتدأ الحضارة الإنسانية".
وكذلك حضارة الهند العريقة على نهر الغانج وذات الألغاز الكثيرة، والحضارة الصينية على النهر الأصفر الممتدة حتى اليوم، والحضارات الأفريقية على ضفاف نهر الكونغو، والأميركية الأصلية على ضفاف الميسيسيبي. وهذا غيض من فيض "حضارات الأنهار" المتناثرة حول العالم.
الصراع الأزلي على مياه النيل
على نهر النيل مثلاً، وبحسب الدراسات التي تناولت حضارة المصريين القدماء، نشأت حضارة مبنية على وجود النهر نفسه. وعلى سبيل المثال أدت الحاجة لمواجهة فيضانه إلى نشوء سلطة مركزية تعمل على حلّ هذه المعضلة السنوية، ويلتزم بأوامرها سائر السكان، هذا بالمعنى السياسي، لكن الفيضان نفسه أسهم في إنشاء نظام التقويم السنوي، بسبب تواتره في نفس الوقت من السنة، بالتالي تطور علم الفلك والنجوم.
كما أنشأت مصر القديمة أنظمة ري معقدة اعتبرها الباحثون إحدى ثمرات الحاجة إلى التعامل مع مزاج هذا النهر، فكانت بدايات هندسة توزيع المياه. والأمر نفسه ينطبق على الهندسة الزراعية، إذ كان المصريون يبدّلون البقوليات بالحبوب مما يوقف تراكم الملح في المياه العذبة، ويعزّز خصوبة حقولهم. كما أتاح نهر النيل سهولة السفر، وأدى في النهاية إلى إنشاء مملكتين العليا والسفلى قبل أن يجري توحيدهما في مملكة واحدة.
يبلغ طول النيل نحو 6670 كيلومتراً. وهو يتألف من رافدين أساسيين هما النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فيكتوريا، والنيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا. ويتوزَّع حوض النيل على ثمانية بلدان غير مصر والسودان الدولتين العربيتين الوحيدتين على النهر، وهي: جنوب السودان، وإثيوبيا، وأوغندا، وكينيا، وتنزانيا، ورواندا، وبوروندي، وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
ونتيجة لأهمية النهر بالنسبة إلى اقتصادات هذه الدول وللحياة فيها، وللاضطراب السياسي الذي تسببت به أكثر من مرة مشروعات إقامة سدود عليه، جرى توقيع اتفاقية دولية في عام 1999، عرفت باسم "مبادرة حوض النيل"، لدعم التعاون بين هذه الدول واستغلال النهر بشكل عادل ومتوازن في ما بينها.
وقد أثمر التعاون بين هذه الدول معاهدات كثيرة بشأن مياهه. لكن معظم هذه المعاهدات إما جزئية أو غير فعّالة أو غير منصفة في مسألة حقوق الدول المتشاركة في النهر. وهذا ما نشهده واقعياً، إذ إن الاتفاقات والمعاهدات لم تؤد إلى وقف النزاعات حول توزيع مياه هذا النهر العظيم حتى اليوم. كما يذكر الباحث عبود طلعت عطية في أحد بحوثه حول الأنهار.
النهر الأصفر والغانج وحضارتاهما
منذ عام 9500 قبل الميلاد استقرت القبائل على طول النهر الأصفر. وهو سادس أطول نهر في العالم، الذي تميّز بحمله الثقيل من الطمي الأصفر والفيضانات المدمرة الدورية، التي كانت الدافع الرئيسي للقبائل على الاتحاد في مملكة واحدة بحلول عام 1700 قبل الميلاد، وذلك لإيجاد حلّ للفيضانات العظيمة المتكررة. وغالباً ما يُعتبر النهر الأصفر "مهد الحضارة الصينية".
أثبتت الدراسات أن المستوطنين على ضفاف هذا النهر عرفوا الزراعة منذ الألف السابع قبل الميلاد، ومن هؤلاء المزارعين ظهرت أولى الممالك الصينية المعروفة باسم "الباليغانغ". ومنذ ذلك الزمن وحتى اليوم، بقي النهر الأصفر عصب الحياة الزراعية والصناعية، غير أن فيضاناته التي تحمل الغرين والطمي المخصّب تسببت أيضاً في وقوع عدد من أكبر الكوارث الطبيعية المسجّلة في تاريخ البشرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أكبر فيضانات هذا النهر كان فيضان عام 1332 - 1333، الذي تسبَّب بمقتل سبعة ملايين نسمة، ونتجت من ذلك ظروف اقتصادية وأمنية مفصلية أدت إلى زوال حكم سلالة يوان، وبروز سلالة مينغ. وحتى في العصر الحديث، فقد أدَّى فيضان هذا النهر في عام 1931 إلى مقتل ما يُراوح بين المليون والأربعة ملايين نسمة. وتحضر فيضانات النهر الأصفر في الآداب والفنون الصينية، وكتبت حولها آلاف الروايات والقصص والقصائد، وظهرت في ما لا يُعدّ من الأعمال الفنية.
أما حوض نهر الغانج الهندي فيعيش فيه نحو 400 مليون نسمة اليوم، من النيبال مروراً بالهند وصولاً إلى بنغلاديش. وقد بدأ الاستيطان في حوض الغانج في بدايات الألف الثاني قبل الميلاد. وثمة أساطير وروايات وأعمال أدبية وصفت الغانج بأنه "رحم الحضارة الهندية".
وتعزَّزت مكانة هذا النهر لاحقاً عندما رفعته الديانة الهندوسية إلى مرتبة القداسة. وبذلك اكتسب هذا النهر مكانة دينية عند الهندوس لا تزال قائمة حتى اليوم. غير أن "قداسة" الغانج، لم تحمه من التلوث، إذ إنه يُعدّ اليوم واحداً من أكثر الأنهار تلوثاً في العالم بالنفايات الصناعية، ومعدل البكتيريا الناجمة عن مجاري الصرف الصحي فيه تبلغ مئة مرة الحد المسموح به.
دجلة والفرات وما بينهما
هناك اتفاق شبه عام بين المؤرخين والمستكشفين الأثريين حول العالم أن بلاد ما بين النهرين هي مهد الحضارة الإنسانية، بمعنى تكوّن المجتمعات والنُظم الإدارية واكتشاف الكتابة ووضع السنن والقوانين، وتطوير الزراعة والحرف.
وقبل أن يحل الألف الرابع قبل الميلاد، كانت القرى المنتشرة على ضفاف النهر قد أصبحت مدناً وممالك ابتكرت الكتابة المسمارية، وطورت علوم الطب والفلك والرياضيات، ووضعت التشريعات القانونية، وازدهرت فيها كل أشكال الفنون، حتى أصبحت عبارة "بلاد ما بين النهرين" مرادفاً لعبارة "نشوء الحضارات"، أي سومر وأكاد وبابل وأشور وكلدان. وأصبحت مدن بلاد ما بين النهرين ولايات مدنية ذاتية الإدارة. كانت إحدى مدن هذه الحضارة، أور، أول مجتمع متعلّم في التاريخ.
جغرافياً، ينبع نهر دجلة من جبال طوروس في تركيا، ويبلغ طول مجراه نحو 1718 كيلومتراً، معظمها في الأراضي العراقية. أما الفرات الذي ينبع من جبال طوروس نفسها، فهو ثاني أكبر نهر عربي بعد النيل، ويبلغ طوله 2800 كيلومتر. وبعد أن يجري الفرات في شمال شرقي سوريا يدخل العراق، حيث يلتقي بدجلة بالقرب من مدينة القرنة ليشكلا شط العرب الذي يجري لمسافة 120 كيلومتراً قبل أن يصب في الخليج العربي.
الكلام حول الأنهار والمياه العذبة يمكن أن يطول قدر ما نشاء، بسبب تفرعات مواضيعه الكثيرة من القانون الدولي إلى التلوّث البيئي إلى توزيع المياه والحق في إقامة السدود، وغيرها الكثير من التفاصيل المتشابكة والمترابطة والمتناقضة في آن.
وعدد الأنهار كبير فوق سطح الكوكب الأزرق، فالمصادر المعروفة تتحدَّث عن وجود ما بين 165 و170 نهراً عظيماً، أي يمكن الإبحار فيها. لكن هذا لا يقلل من شأن مئات آلاف الأنهار الأصغر حجماً التي تنتشر على أكثر من 170 رقعة جغرافية. واكتفينا بالحديث عن هذه الأنهار بسبب الحضارات الموغلة في القدم التي نشأت على ضفافها.