ملخص
قد يكون فيلم "وين صرنا" محاولة صادقة لدعم القضية الإنسانية الأهم بالوطن العربي ومحاكاة مأساة شعب لا يزال يعاني الويلات وقد يكون رسالة مهمة أرادت مخرجته توجيهها للعالم لجذب الدعم من خلال شاشة السينما لكن الأمور ينقصها النضج في التناول والتعمق والسرد وترابط الدراما التي يتحتم وجودها لصنع عمل يستطيع التأثير وإيصال رسالة حقيقية.
النوايا الحسنة وحدها لا تكفي لصناعة فيلم جيد وشريط سينمائي مؤثر يخدم قضية ذات أهمية مثل القضية الفلسطينية، فمنذ الإعلان عن عرض فيلم "وين صرنا" بمهرجان القاهرة السينمائي تصاعدت الآمال والطموحات في وجود عمل قوي يُروى بصورة تلامس القلب والعقل ويحدث أثراً قد يضع الأمور في منطقة أكثر تقدماً من حيث الدعم والحماسة والتعاطف، لكن الفيلم جاء أقل من المتوقع وصدم الكثير ولم يكن موفقاً في معظم النواحي الفنية وحتى في السرد أو اقتباس الحقائق، وفق ما أجمع النقاد.
وفي وقت قدمت السينما بجنسيات مختلفة الأزمة الفلسطينية منذ بداية تاريخها وحتى منعطفها الأضخم بعد هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 حاولت الممثلة التونسية درة زروق تقديم مأساة أسرة فلسطينية لاجئة تفر من ويلات الحرب بغزة في محاولة محمودة النية لتقديم الدعم والتعاطف الإنساني لكن يبدو أن اختيار الحالة لم يكن على مستوى عمق القضية نفسه وقوة حكاياتها ومعاناة شعبها.
الأحداث
دارت الأحداث حول أسرة فلسطينية نازحة مكونة من مجموعة من النساء وأبرزهن امرأة اسمها نادين تترك غزة مجبرة مع أسرتها وأشقائها وبناتها وتذهب إلى مصر لتقطن في بناية فارهة وشقة في مستوى أعلى من المتوسط، تعيش الأسرة لتروي بطريقة الفلاش باك كيف تعرضت المنازل للقصف وكيف تحولت حياتهم الهانئة بين ليلة وضحاها إلى جحيم يفترض أن الأسرة تعيشه بقساوة وتتذكره فيعتصر القلوب.
وللأسف جاءت الحكايات التي يفترض أن تحوي الكثير من الدراما والتأثير بين طالبة الطب التي تترك الجامعة وفتيات صغيرات يتركن ممارسة الرياضة وزوجة كانت تحب سماع الغناء ببيتها، ليتحول هذا الحكي لدموع تشرح معاناة أسرة هاربة من الجحيم تعيش على الذكريات وأمل الرجوع.
كانت الحكايات مكررة مع كل مشهد فتلك تكرر وتحكي أنها تركت سريرها العزيز وملابسها وحقائبها، وهذا يحكي عن اشتياقه لأصدقائه.
أما الأم فتروي ذكرياتها الجميلة وكيف كانت تطهو الأكلات الشهيرة برواق كبير غير الذي تطهو به في مصر على رغم توفر كل الإمكانات بشقتهم الجديدة دون وجود أية ضائقة مالية أو اقتصادية بل كان الوضع أفضل من أسر عربية تعيش في طبقة متوسطة أقرب إلى الراقية.
شديدة الوهن
محاولات التأثير بالدموع وجلب التعاطف مع حياة عادية وحكايات غير مأسوية من دون حدث مهم أو رواية عميقة تبعث على الشجن أو التألم كانت شديدة الوهن كما وصفها بعض المشاهدين للعمل، وكلها أحداث قد يمر بها أي لاجئ لم يعصف به التدمير نفسياً وإنسانياً وجسدياً.
قارن الكثير بين شريط الأخبار وما يبثه في ثوان عبر شاشات التلفزيون أو مقاطع الإنترنت بوسائل التواصل الاجتماعي من أهوال وجوع وتشرد وآلام وتفجيرات تمزق الناس لأشلاء، وقصص تقصف بالقلوب عن أمهات ثكالى يرثين صغارهن، وأطفال أيتام التقطوا جثث ذويهم وحملوها ليدفنوا ما تبقى منها، وضحايا عراة في برد لا يرحم يموتون جوعاً وعطشاً، وبين ما بثه شريط سينمائي يتساءل "وين صرنا"؟ ويحكي روايات لا يمكن مقارنتها بمعلومات تلح يومياً على الجميع وتنزف قلب العالم أجمع.
المقارنة بين حجم الحقيقة ومحتوى فيلم وثائقي لا تتسلل فيه الروايات حتى بصورة متقنة أو جذابة كانت السبب في بعث الملل منذ اللحظات الأولى للفيلم، ومع ازدياد الحكايات العادية والمشاعر الأقل من متوسطة، ورؤية الأسرة النازحة في رفاهية بشقة جيدة ووسائل ترفيه وأجهزة موبايل حديثة يتحدثون فيها "فيديو كول" مع أصدقائهم بغزة دون حتى ذكر قصص عن آلام حقيقية مؤثرة لغيرهم كل ذلك صب في اتجاه غير مفيد للعمل السينمائي أو القضية.
نهاية الفيلم
وحتى في نهاية الفيلم الحديث الذي يفترض أن يثير القلوب عن حزن الأسرة على بيت العائلة في منطقة تل الهوى كان عن كيفية ضياع (شقاء عمر) الأب في غمضة عين، وكيف أحزنهم تدمير ما كانوا يملكونه، وتأثير ذلك في الوالد، مع أمنيات بعودة زوج البطلة نادين الذي يعيش حتى رواية الفيلم سالماً آمناً بغزة على رغم كل الأحداث، وانتهى عرض الفيلم برحلة نزوحه السالمة من دون خدش إلى القاهرة للقاء أسرته المبتسمة والمنتظرة لأحضانه.
أثار الفيلم حفيظة الكثير وكان سبباً في الجدل الذي طرح أسئلة مثل لماذا قررت درة اختيار أسرة عادية وآمنة وغير متضررة بصورة لا تخدم الدراما أو تثير التعاطف؟ وما حجم المعاناة التي قابلتها هذه الأسرة مقارنة بأسر تدمر كل ما فيها وتحولت إلى أشلاء جسدية وإنسانية وصارت رقماً في مأساة تنحاز لها القلوب منذ اللحظة الأولى دون تفاهم أو تراجع؟
وكان السؤال الأهم ما الذي قدمه الفيلم لخدمة القضية وما معاناة اللاجئين في هذه الحالة تحديداً؟ فمن يشاهد الفيلم لن يدخل منعطف الانحياز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحتى مشاهد غزة قبل وبعد الحرب الأخيرة قدمت بتواضع فني مثير للدهشة وكانت تبدو وكأنها تكملة للشريط السينمائي فقط.
تحدثت درة عن الفيلم قبل عرضه وعن تأثرها في حال أسرة نادين النازحة من غزة وقالت إن سبب شروعها في تقديم العمل هو المساندة ودعم القضية بعد تفاعلها مع حكايات العائلة الفلسطينية، وأشارت إلى أن ما سبق سبب قرارها إنتاج الفيلم وإخراجه في أولى تجاربها بهذا السياق.
وقالت إن معظم مشاهد الفيلم صورت في مصر وبعض مشاهد غزة لم تصورها بنفسها لصعوبة السفر وأتت بها من طريق آخر لشعورها بضرورة توضيح مدى الدمار الذي وقع بالمدينة الجميلة وكشف مدى معاناتها.
تحت مجهر النقد
لم يتفق بعض النقاد مع الفيلم بصورته الفنية أو الإنسانية فقال الناقد خالد فرج "على الممثلة درة أن تعيد النظر في فكرة الإخراج مرة أخرى فالفيلم جاء طويلاً وبطيئاً وغير مترابط ومثيراً للملل، ولم يحظ بأي جزء فني يشحن طاقة المشاهدة أو الاهتمام، لكونه ضعيفاً من كل الزوايا والتناول والسرد والمعالجة، كما كان تكرار الروايات نقطة ضعف غير مفهومة وسبباً في الإحساس بعدم وجود محتوى يستحق الدقائق الطويلة التي استغرقها الفيلم في وصف مكرر وكلمات معادة".
وقال الناقد طارق الشناوي "العمل غير مترابط من حيث السياق والحكي لذلك فقد جاذبيته فكيف لعمل لا يشهد تسلسلاً جاذباً أن يحظى بمتابعة ممتعة أو مؤثرة".
في حين دعم درة عدد من زملائها الفنانين وصناع السينما مثل بشرى وليلى علوي وكندة علوش والمؤلف عمرو محمود ياسين الذي أشاد بإنسانية الفيلم وقوته في شحن التعاطف مع القضية الفلسطينية لدرجة أنه أبكى الحاضرين.
محاولة صادقة ينقصها النضج
قد يكون فيلم "وين صرنا" محاولة صادقة لدعم القضية الإنسانية الأهم بالوطن العربي ومحاكاة مأساة شعب لا يزال يعاني الويلات وقد يكون رسالة مهمة أرادت مخرجته توجيهها للعالم لجذب الدعم من خلال شاشة السينما، لكن الأمور ينقصها النضج في التناول والتعمق والسرد وترابط الدراما التي يتحتم وجودها لصنع عمل يستطيع التأثير وإيصال رسالة حقيقية، وكم من أفلام سينمائية حاولت محاكاة قضية فكانت الحقيقة أقسى وأكثر سطوعاً لدرجة أظهرت الأعمال باهتة.