يرى خبراء وباحثون، وفق معطيات استندت إلى دراسة استطلاعية جديدة، أن طريقة أداء العمل بدوام كامل، التي كنّا نعرفها في السابق، قد تغدو مختلفة تماماً في حقبة ما بعد جائحة كورونا. وأظهرت الدراسة الحديثة التي أجرتها مؤسسة "ديلوات" Deloitte للاستشارات أن كثيرين منّا قد يفضلون تقسيم وقت عملهم بين دوامين، واحدٍ من المكتب، وآخر من البيت.
في هذا الإطار توصلت الدراسة التي شملت 800 شخص من خلفيات مهنية متنوعة إلى أن أولئك الذين يمكنهم أداء عملهم من المنزل قد يختارون الاستمرار بفعل هذا الأمر عندما تُخفف قيود الإغلاق والحجر الصحي، فلا يقصدون مكاتب عملهم أكثر من يومين أسبوعياً. وتحدّث كبير الاقتصاديين في مؤسسة "ديلوات"، إيان ستيوارت، عن الأشخاص الذين شملتهم الدراسة، قائلاً "إنهم، بمعدلهم الوسطي، أظهروا رغبة في العمل من المكتب ليومين في الأسبوع". وفي كلام له أمام لجنة مصغرة شكلتها وزارة الخزانة (المالية) البريطانية لتقييم ظروف العمل، ذكر ستيوارت " قلة قليلة من أولئك الأشخاص [الذين شملتهم الدراسة] اختارت العمل كلياً من المكتب، أو على شكل كامل من البيت". وأردف "أعتقد أن التغيير (بهذا الخصوص) سيكون تدريجياً".
من جهة أخرى أوضحت رين نيوتن- سميث، كبيرة الاقتصاديين في "اتحاد الصناعة البريطانية" Confederation of British Industry، أن أعضاء الاتحاد يتوقعون أن تكون الطاقة الاستيعابية في المكاتب في مرحلة ما بعد الجائحة، قرابة الـ70 في المئة. وكان استطلاع أجراه "اتحاد الصناعة البريطانية" شمل 573 مؤسسة، ونشرت نتائجه في نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم، أظهر تحولاً كبيراً في المواقف تجاه العمل من المنزل. وقد بيّن الاستطلاع المذكور أنه، في عام 2019، كان أكثر من ثلاثة أرباع المتجاوبين (79 في المئة) يعملون من مكاتب أو مقرات عمل بعيدة من بيوتهم، وقد توقعت المؤسسات في السياق تراجع هذا المعدل إلى قرابة الربع (28 في المئة) مع دخولنا عام 2021، وذلك مع قيام نحو نصف المستطلعين (47 في المئة) بتقسيم وقت عملهم بين دوام من المكتب ودوام من البيت.
ويتوقع الخبراء أن يكون أداء العمل على نحو مرن عاملاً مساهماً ربما في توسعة "مجمع المواهب" talent pool، نظراً لتراجع أهمية الموقع الجغرافي. في السياق ذاته، يقول مارك ستانيلاند، المدير الإداري الإقليمي في شركة "هايس" Hays البريطانية إنه "مع تزايد تبنّي أشكال العمل وأداء الوظائف من بُعد، فإن لدى المؤسسات فرصة لفتح مجمع المواهب الخاص بها أمام المحترفين الذين لا يعيشون على مقربة من مكاتبها أو مقارها. وهذا بالنسبة لأصحاب العمل، الذين يجهدون للعثور على المواهب التي يحتاجونها، تحديداً، يمثّل فرصة مؤاتية للمساهمة في دعم جهود جذب المواهب والخبرات".
في الإطار عينه أيضاً، كانت شركة "سي تريب" Ctrip الصينية، وفي فترة ما قبل الجائحة، قد رأت أن الطاقة الإنتاجية تزايدت بمعدل وسطي بلغ 13 في المئة بفضل نسق العمل من البيت. وقد وافق على هذا الطرح متحدث باسم مؤسسة "سي بي آي" CBI (لمعلومات سوق العمل)، معتبراً أن "أداء العمل من بُعد أثمر فوائد هائلة. كما أنه لم يؤد إلى انهيار الطاقة الإنتاجية". تابع المتحدث باسم "سي بي آي" قائلًا "لقد اختفى بشكل أساسي عامل تضييع الوقت جراء التنقّل على الطرقات، وطُويت معه حالات الإجهاد ومظاهر انبعاثات الكربون خلال ازدحام الصباح. ما أفسح المجال أمام إعادة اكتشاف العديد من الأوساط المجتمعية والبيئات المحلية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما ميغي بالمر، مُبتكرة تطبيق "بيب توك هير" PepTalkHer، الذي يعمل مع شركات "فورتشين" Fortune الـ 500 لمساعدتها في توظيف المواهب النسائية والمحافظة عليها والترويج لها، فقد رأت أن مسألة المطالبة بالمرونة في أداء العمل وتغطية الدوامات، تزايدت في أوساط الموظفين. وذكرت بالمر في هذا الصدد "أنهم (الموظفون) يريدون اختيار الحياة بدل أن يكونوا عبيداً في مكاتبهم – وهم محقون في هذا"! كما رأت السيدة بالمر أن بعض أصحاب العمل أعلنوا بالفعل أن نسق العمل لخمسة أيام في الأسبوع بمعدل 9 ساعات في النهار، قد "مات". وهي (بالمر) شهدت تبني عدد كبير من أصحاب العمل لثلاثة فئات من الموظفين: العاملون من بعد بشكل كلّي، العاملون من المكتب، وفئة ثالثة هجينة (تعمل من البيت ومن المكتب على حدّ سواء).
من ناحية أخرى، فإنه من الواضح أن الجائحة فرضت على المؤسسات التفكير بخيارات هجينة أكثر كي تعتمد بشكل دائم، تتعلق بأداء موظفيها العمل. وأشار تقرير أصدره نيكولاس بلوم من "ستانفورد إيكونوميكس" Stanford Economics عام 2020، إلى أن "العمل من البيت سيكون جزءاً لا يتجزأ من اقتصادنا في حقبة ما بعد كوفيد". وتابع بلوم في تقريره "كلما سارع صانعو السياسات وقادة الأعمال في التفكير بتداعيات وتبعات ظهور شريحة عاملة من البيت، كلما كانت ظروف مؤسساتنا ومجتمعنا أفضل حين تخمد الجائحة".
لكن، على الرغم مما تقدّم من معطيات وتوقعات، تبقى أمامنا اليوم مخاوف ينبغي التفكير بها أيضاً ترافقاً مع التحولات الجديدة في طرق أداء العمل والوظائف، وهي تتمثّل بما يعتبره نيكولاس بلوم "القنبلة الموقوتة" للتفاوت واللامساواة، والتي تنتظر الانفجار. وسبب تلك "القنبلة الموقوتة"، بحسب بلوم، يعود إلى أن العديد من الموظفين ليست لديهم بيئات وأجواء عمل مناسبة في بيوتهم، كما أن الكثيرين منهم يفتقرون إلى المهارات التكنولوجية. كذلك ثمة تحديات عدة يواجهها الموظفون الصغار والأدنى رتبة حين يعملون من بيوتهم. إذ تكشف معطيات مؤسسة "سي بي آي" في هذا الإطار أن القدرة على القيادة ومظاهر الإدارة وتدريب الموظفين تضاءلت بفعل العمل من المنزل. وذكر تقرير الـ"سي بي آي" في هذا الصدد أن "فرص الموظفين الصغار [المبتدئين] للتعلّم عبر الاستماع إلى زملائهم الأكبر ومعاينة أساليب عملهم، [تضاءلت] صارت تمثل تحديات أكبر".
© The Independent