لم يعد الخوف من انهيار الاتفاق النووي قائماً بعد اليوم، فقد كانت تعهدات الرئيس جو بايدن بالتزامه الصفقة الموقعة في 2015 كفيلة لاحتواء قلق المؤمنين بالحلول السلمية لمنع سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط، إلا أن إغلاق هذا الباب أتاح فرصة الظهور لمخاوف أخرى قبعت تحت طاولة الصفقة النووية السابقة من دون أن يهتم لها أحد.
إذ يخشى المتابعون للمشهد الإيراني من أن يطغى التزام الرئيس الأميركي بالاتفاق الذي كان جزءاً من مشهد توقيعه قبل 5 سنوات، على الملفات الحقوقية وسجل إيران في حقوق الإنسان، من أجل الخروج بصفقة ناجحة تحتوي قدرات طهران النووية ولو كانت منقوصة، وتسهم في ترشيد سلوكها السياسي داخلياً وخارجياً، في منطقة أثبتت فشلها في قبول الحلول الكاملة.
باعث هذه المخاوف هي الفكرة التي بني عليها الاتفاق من الأساس، إذ دافع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عن صفقته المفضلة التي تجاهلت عيوب النظام الإيراني لاستحالة حل مشكلات النظام بالكامل دون تجزئتها، وأن فرص احتواء قدرتها الصاروخية ودعمها للجماعات المسلحة، بالإضافة إلى تعزيز الحريات وحقوق الإنسان داخلها، يتطلب العمل عليها كل على حدة بعد احتوائها في المجتمع الدولي والضغط عليها عن طريق أدواته، وهو ما يبدو غير مأمون النتيجة.
سياسة الاحتواء
درست مؤسسة هوفر التابعة لجامعة ستانفورد، المتخصصة في السياسة العامة، سلوك النظام الإيراني بعد أن وضعته تحت أكثر من حالة، بدءاً من إدارة أوباما التي تعتقد أن إشراك إيران في اتفاق دولي عرف رسمياً باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة"، من شأنه أن يحفز النظام على تغيير سلوكه، وكان من المفترض أن يؤدي الاتفاق إلى تعزيز مزيد من التسامح السياسي وتخفيف انتهاكات حقوق الإنسان، وفق النظرية التي كانت تسير بها تلك الخطة.
لكن بالنظر إلى الواقع ضاعف النظام من قمعه للمجتمع المدني، ونشاط المرأة، وحرية التعبير العامة، وفرصة حرية الأعمال والتجارة والاستثمار الأجنبي، إذ ترى الدراسة التي قام بها الباحث في المركز، وانغ شيون، أن النظام كان "قلقاً من أن تؤدي خطة العمل الشاملة إلى تحرر يمكن أن يودي بالنظام في النهاية، ويكون انفتاحه بعد الاتفاق بداية لنهايته"، الأمر الذي جعل الإيرانيين يستقبلون مكتسبات الصفقة في أشهرها الأولى بتفاؤل حذر.
إلا أن الاتفاق لم ينعكس فعلاً على سلوك النظام ولم يسهم في ترشيده، فالبلاد التي تملك واحداً من أسوأ سجلات انتهاك حقوق الإنسان، وواحدة من أعلى معدلات الإعدام في العالم، لا يبدو أن من السهل تغييرها بهذه الطريقة.
رغم هذا ترفض إيران التقارير الحقوقية التي تنتقد سلوكها في مجال حقوق الإنسان وتؤكد أن نظامها القضائي قائم على أساس العدالة.
بحسب الباحث، فإن ما يعرّفه الغرب بأنه "مشكلة حقوق إنسان" يمكن حلها عن طريق الاحتواء، هو أكبر من ذلك بالنسبة إلى السياسيين الإيرانيين، إذ "يعتمد النظام السياسي في طهران على حرمان رعاياه من الحريات السياسية والمدنية، بوصفه صورة من صور حماية حرمة النظام الثيوقراطي والاستبدادي"، بالتالي يصعب توقع حله بهذا الشكل.
ولا تعترف طهران باتهامها في إيجاد إجواء سياسية منغلقة وينص دستورها على ضرورة الحريات السياسية والمدنية المعمول بها في العديد من الدول.
لكن النتيجة تخلص إلى أن إصرار العالم الحر الذي تتزعم الولايات المتحدة قيادته الأخلاقية، على حل المشكلة بهذه الانتقائية على الرغم من فشله مراراً وتكراراً في صنع نظام رشيد، يوحي بأن الإدارة مشغولة بكبح القدرات النووية الإيرانية لحماية الأمن الأميركي والدولي كهدف وحيد، وهو أمر كان ذا أولوية على كل شيء بالنسبة إلى إدارة أوباما، بما في ذلك حقوق الإنسان.
إذ لا يزال العديد من الإيرانيين الذين ينظرون إلى الولايات المتحدة باعتبارها منارة للحرية في نضالهم من أجل الحقوق المدنية والسياسية، يتذكرون بمرارة كيف تم التخلي عنهم في عام 2009، عندما خرج ملايين الإيرانيين إلى شوارع طهران في ذلك العام للاحتجاج على نتائج الانتخابات واتهام السلطات بتزوير النتائج لصالح محمود أحمدي نجاد، في حين التزم الرئيس أوباما الصمت عندما قمعوا بوحشية، ولم يظهر حينها إلا انتقادات محدودة.
ورفضت طهران اتهامات تزوير الانتخابات واتهمت المعارضين بمحاولة استغلال الاستحقاق الانتخابي للعمل ضد نظام البلاد واعتقلت قادة المحتجين مير حسين موسوي وزوجته زهراء رهنورد ومهدي كروبي.
فرصة "هلسنكي" الضائعة
في عام 2013، عندما صعد حسن روحاني إلى الرئاسة الإيرانية، وعد بمزيد من الشفافية في التفتيش النووي والتسامح السياسي، ومع ذلك، كان من الواضح أن النظام، بقيادة المرشد الأعلى علي خامنئي، ورجال الدين المحيطين به، لم تكن لديهم مصلحة في تخفيف قبضتهم على المجتمع، فلم يتحسن سجل إيران في مجال حقوق الإنسان في ظل ما سمي بالحكومة المعتدلة.
إلا أن هذا لم يعن شيئاً بالنسبة إلى الرئيس الأميركي، الذي كان يأمل في اختتام رحلته الرئاسية بصفقة كبيرة كهذه، ففي الوقت الذي اندفعت فيه حكومة أوباما باتجاه إجراء محادثات نووية، اقترح الباحث الإيراني الأميركي راي يكييه، أن تدرج الولايات المتحدة عنصراً متعلقاً بحقوق الإنسان في المفاوضات، كما حدث خلال اتفاقيات هلسنكي مع الاتحاد السوفياتي في منتصف السبعينيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذ إن تلك الاتفاقية التي خلقت التهدئة بين غرب أوروبا وشرقها، واحتوت هاجس التهديد الوجودي لكلا الطرفين، انتزعت بالمقابل من السوفيات ضرورة السماح بحرية نقل المعلومة وعمل وسائل الإعلام، وهو ما تم فعلاً على الرغم من بعض الانتهاكات.
هذا لم يغب عن الرئيس الذي كان في آخر ولايته الثانية، إلا أن ضغوط الدورة الانتخابية والحاجة إلى التوصل إلى اتفاق قبل نهاية فترته الرئاسية دفع به إلى تخفيض تطلعاته بشأن المفاوضات لعقدها على أي حال، لتتم التضحية بحقوق الإنسان على مذبح لوزان.
فترة المقاومة القصوى
مايو (أيار) 2018، كان فرصة لمركز هوفر لدراسة السلوك الإيراني أمام مقاربة أميركية مختلفة، ففي هذا التاريخ أعلن الرئيس دونالد ترمب أن الولايات المتحدة ستواجه السلوك الإيراني بالانسحاب من الاتفاق النووي، مؤكداً على أوجه القصور فيه، وإعادة فرض العقوبات من أجل إجبار النظام على التفاوض على اتفاق أكثر شمولاً، أو تقييد قدرته بشدة على زعزعة استقرار المنطقة.
وعلى الرغم من أن إدارة ترمب أدانت انتهاكات إيران الجسيمة لحقوق الإنسان في أكثر من موقف، إلا أنها غالباً ما كانت تعبر عنه بموقف خطابي لا أكثر، إذ لم تشمل الشروط الاثنا عشر التي وضعها ترمب لـ"اتفاق جديد" مع إيران أي بند عن حقوق الإنسان.
على الرغم من ذلك وضع فريقه حملة ضغوط كانت الأقسى في التاريخ شملت قرابة 800 قيد عقابي، وضعت الاقتصاد الإيراني الذي يعاني في الأساس تحت معاناة أكبر.
نجحت هذه العقوبات في دفع الساخطين في جميع أنحاء البلاد إلى النزول إلى الشارع مرة أخرى، بعد أن تسببت في رفع أسعار الوقود في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، لكن النظام لم يتردد في الرد بعنف. فوفقاً لتقارير "رويترز" فقد تسببت حملة القمع تلك في "قتل نحو 1500 شخص، وهي الأكبر منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية" رغم رفض طهران هذه الإحصاءات لكنها اعتعرفت بقتل نحو 300 شخص.
ولم تكن هذه الانتهاكات هي الوحيدة التي تمت في ظل السياسة الجديدة، إذ أعدمت إيران في 2020 المصارع العالمي نافيد أفكاري، بعد أن أجبر بحسب تقارير حقوقية دولية على الاعتراف بقتل رجل أمن في احتجاتات 2017-2018، بالإضافة إلى الصحافي المعارض روح الله زم، الذي استدرج من فرنسا إلى العراق واختطف من هناك، ليتم شنقه في ديسمبر (كانون الأول).
النظام في طهران، بحسب ذات التقرير الذي نشرته "هوفر"، اختار في نهاية المطاف "المقاومة القصوى" في وجه "الضغوط القصوى"، وعمل على تجاوز العقوبات عن طريق مسارين، الأول "استغلال كل فرصة يتيحها الاقتصاد الإيراني الضخم لمعالجة المشاكل الناجمة من العقوبات"، وثانيها هو "الاحتفاظ برقابة صارمة على المواطن من خلال استخدام كل سبل القمع الممكنة".
هذه الخطة قائمة على أساس واحد، وهو أن تنجح إدارة ديمقراطية في إسقاط عدوها من المكتب البيضاوي، وإلغاء سياسته العقابية والعودة لخطة العمل المشتركة الموقعة في 2015.
بين القيم والمخاوف
منذ حملته الانتخابية وبعد تحقق رجاء السلطة الإيرانية بفوزه، أعلن الرئيس بايدن عن نيته القاطعة لاستعادة الاتفاق النووي، على الرغم من اعترافه بحاجته إلى إصلاح وتوسيع.
إذ أعلن مستشاره للأمن القومي، جيك سوليفان، جدولاً زمنياً معجلاً لإحياء الاتفاق، مثل هذا بالنسبة إلى المراقبين عودة إلى سياسة أوباما تجاه إيران، عندما طغت رغبته في كبح انتشار الأسلحة النووية على أي شيء آخر. وإذا تبنت إدارة بايدن هذا الموقف بالفعل، فإن قضايا حقوق الإنسان في إيران لن تتجاوز على الأرجح هامش المناقشات السياسية الجانبية، بحسب شيون.
ويملك الباحث رؤية أخرى يمكن أن تؤدي إلى ذات النتائج التي تهدف إليها الإدارة الأميركية من تمسكها بالاتفاق، إذ يرى أن "التأكيد على الحرية السياسية وحقوق الإنسان في إيران، وتعزيز موقع الشعب الإيراني من السلطة وتحديد مصير البلاد، من شأنه أن يساعد على منع النظام من ممارسة أي سلوك خطر، نووي أو غيره، داخل إيران أو خارجها"، ويضيف "هذا هو السبيل الوحيد الذي يمكن للولايات المتحدة أن تدفع به الدولة الكبيرة في الشرق الأوسط نحو دور أكثر مسؤولية في المجتمع الدولي، بدلاً من استرضائها".
ويضيف في ختام ورقته أن ذلك قد يستغرق وقتاً، لكنه "يتطلب التزاماً سياسياً من واشنطن بموقفها الأخلاقي أمام الشعب الإيراني، للوصول لمكتسباتها التي تهدف إليها كتحقيق السلم والأمن الدوليين، وكبح قيام قوى نووية جديدة، دون الحاجة إلى تقديم تنازلات أخلاقية".
وإن كان بايدن ليس البابا يوحنا بولس الثاني، إلا أنه قادر على استعارة كلمته التي قالها للبولنديين الثائرين على الحكم الشيوعي في 1978، عندما صدح "أيها الشعب المقهور خلف السياج الحديدي، لا تخافوا"، التي أشعلت ثورة أنهت حكم أحفاد لينين في وارسو، وأوروبا الشرقية ككل.