ليس في لبنان سوى قليل من القراءات العميقة في "ثورة الأرز" التي صارت ذكرى بعدما كانت معجزة، وهي ثورة شعبية عابرة للطوائف صنعت كثيراً وفشلت في صنع كثير أيضاً.
كانت عواملها تتراكم وإرهاصاتها تتوالى من "نداء الأساقفة" عام 2000 إلى اجتماعات "قرنة شهوان" ثم "لقاء البريستول" قبل الحدث التراجيدي الكبير، عبر اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه يوم 14 شباط (فبراير) عام 2005، والرد كان اندفاع مليون لبناني إلى ساحة الشهداء في بيروت يوم 14 آذار (مارس) 2005 للمطالبة بخروج القوات السورية من لبنان على رأس مطالب أخرى، وهكذا وُلدت قوى "14 آذار" السيادية في مواجهة "قوى 8 آذار" التي رفعت شعار "شكراً سوريا".
الأولى ضمت المسيحيين والسنة والدروز وبعض النخب الشيعية، والثانية ضمت "الثنائي الشيعي"، أي "حركة أمل" و"حزب الله" مع بقايا المرتبطين بسوريا.
كان إخراج القوات السورية إنجازاً يشبه صنع المستحيل، وهو ما صنعته الكتلة الشعبية الوطنية الواسعة التي استندت إليها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ودول عدة، لفرض الانسحاب السوري بموجب القرار (1559) الصادر عن مجلس الأمن الدولي من قبل، لكن الإنجاز توقف هنا من دون إكمال الطريق نحو "العبور الى الدولة".
قوى "14 آذار" ربحت الانتخابات، لكنها لم تستطع تأليف حكومة من دون تسوية مع الآخرين، ثم قادت التطورات والحسابات الضيقة إلى تفرق قوى "14 آذار" مع بقاء روح الثورة لدى الناس.
وعلى العكس، فإن قوى "8 آذار" بقيت متماسكة، ثم انضم إليها عملياً لا رسمياً "التيار الوطني الحر" بزعامة العماد ميشال عون، عبر "تفاهم مار مخايل" عام 2006 مع حزب الله، والبديل من الهيمنة السورية كان النفوذ الإيراني عبر حزب الله الذي كبر دوره وصار "قوة إقليمية" تقاتل في سوريا، وتساند في العراق واليمن وأماكن أخرى ضمن "الشرق الأوسط الإسلامي"، الذي تعمل جمهورية الملالي على إقامته بقيادتها تحت عنوان محور "الممانعة والمقاومة".
أما "الاستقلال الثاني" فإن حظه لم يكن أفضل من حظ الاستقلال الأول عام 1943، ولا شيء يوحي بأن القوى "السيادية" مستعدة للتخلي عن حساباتها الفئوية لتشكيل جبهة واسعة تفرض إعادة تكوين السلطة، ولا أن القوى التي يقودها حزب الله يمكن أن تتخلى عن التسلط، ولو صار لبنان في مرحلة متقدمة من الانهيار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حين قدم ميشال شيحا الدستور عام 1926 قال، "هذا دستور لبنان الرسمي، أما الدستور الحقيقي فهو أن لبنان لا يحكم إلا بالتسويات"، وكانت التوصية الأوروبية في القرن الـ 19 بلسان مستشار النمسا مترنيخ هي، "من واجب العناية صون هذا البلد الصغير من العنف"، بل إن دارسي التاريخ وصلوا إلى خلاصات موجزها أن لبنان ليس بلد ثورات بل بلد حروب وصراعات وتسويات، والواقع أن لبنان شهد مع الحروب والصراعات أربع ثورات منذ الاستقلال، لكن كل ثورة كما كل حرب وصراع انتهت بتسوية، وكل تسوية قادت بعد مدة إلى أزمة فصراع فحرب ثم تسوية، وهذا هو المنطق الديالكتيكي.
"الثورة البيضاء" عام 1952 أدت إلى استقالة الرئيس الاستقلالي الأول بشارة الخوري، وثورة 1958 الدامية انتهت بتسوية "لا غالب ولا مغلوب" في الداخل، وتفاهم أميركي- مصري على انتخاب الجنرال فؤاد شهاب رئيساً، والذي تفاهم مع الرئيس جمال عبدالناصر على احترام القاهرة لسياسة لبنان الداخلية، وتنسيق بيروت معها بالنسبة إلى السياسة الخارجية.
حرب لبنان الطويلة التي كانت أهلية وإقليمية ودولية انتهت بتسوية في الطائف، و"ثورة 17 تشرين الأول" (أكتوبر) 2019 لم تحقق سوى استقالة الرئيس سعد الحريري، مع بقاء السلطة الحاكمة والمتحكمة في مواقعها على الرغم من دورها في صنع الأزمات الوطنية والسياسية والمالية والاقتصادية، كما في منع الإنقاذ منها وسد نافذة الفرصة التي فتحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتكراراً فإن "ثورة الأرز" ضاعت بسبب التخاذل الذي لجأت إليه القوى الحزبية في مواجهة التصميم الفولاذي لقوى الثورة المضادة على التحكم بالبلد، وليس أكبر من الأسباب التي تقود إلى ثورة سوى العوامل والقوى التي تقاتل لإفشال الثورة، ولا شيء يساعد خصوم الثورة أكثر من ضعف التنظيم في صفوف الثوار، حيث أقل ما تحتاج إليه الثورة هو "حزب ثوري ونظرية ثورية" بحسب فلاديمير لينين.
ولا مجال، كما أكدت التجارب، لأن تؤدي التسويات الناقصة إلى بناء دولة، والمعادلة الضرورية التي هي بداية الإنقاذ سواء بثورة أو بتسوية، يختصرها شعار "الشرعيات الثلاث"، التزام الشرعية الدستورية عبر تطبيق اتفاق الطائف نصاً وروحاً، الشرعية العربية والشرعية الدولية، والباقي يتم تطويره ضمن المسار الديمقراطي.