في التاسع من الشهر الحالي أنفق عشرات الملايين حول العالم ساعتين من وقتهم لمشاهدة اللقاء الذي أجرته في لوس أنجليس الإعلامية الشهيرة أوبرا وينفري مع دوق ساسيكس الأمير هاري، حفيد ملكة بريطانيا والثالث إلى العرش، وعقيلته الخلاسية (سابقاً الممثلة السينمائية) دوقة ساسيكس ميغان ماركل. وبحث اللقاء، الذي دار شقّه الأكبر مع ميغان، في أسباب القطيعة بينها وزوجها من جهة وأهله (بمن فيهم والده الأمير تشارلز وشقيقه الأمير وليام) من الجهة الأخرى، وتوابعها التي أفضت إلى هجرة الزوجين إلى الولايات المتحدة وتجريدهما من وظائفهما الملكية واضطرارهما للعيش على المال الذي ورثه هاري من والدته الأميرة دايانا. وبدا في خلاصة اللقاء أن محور المشكلة هو أن هاري – الأمير الذي كان بوسعه الزواج بمن أراد من فتيات الدنيا – اختار هذه الفتاة الخلاسية.
والواقع أن العائلة المالكة البريطانية أثبتت على مر تاريخها الطويل أن لأهواء القلب ودروبه المتشعّبة أثراً في كينونتها وهويّة بريطانيا نفسها، لا يقل عن أزاميل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
القلب يغيّر مجرى التاريخ
ربما كان المثال الأسطع لسلطان القلب حتى على أكبر السلاطين هو انشقاق الملك هنري الثامن (1491 – 1547) عن الكنيسة الكاثولكية وتأسيسه في 1534 "كنيسة إنجلترا"، فحسب لأن روما سدت عليه الطريق إلى الطلاق من زوجته الأولى، كاثرين الأراغونية، للزواج من عشيقته آن بولين. ولنذكر هنا أن روما الكاثوليكية وجدت في هنري أقوى وأهم أنصارها على الإطلاق حتى أنها أسبغت عليه لقب "حامي حمى الدين" لوقوفه الصامد في وجه اللوثرية ودحرها. وعلى الرغم من أن هنري ساق أمام البابا أسباب سعيه للطلاق وأهمها أن كاثرين لم تهبه ذكراً يرث عرشه (وهبته اثنين مات كلاهما في الشهور الأولى)، وأن زواجه منها لعنة لأنها في الواقع أرملة أخيه، فقد رفض الحبر الأعظم طلبه لأن الزواج الكاثوليكي لا ينفضّ إلا بالموت. فلمّا أيقن هنري أن هذا الطريق مسدود بالكامل أعلن انشقاقه عن الكاثوليكية وتأسيسه كنيسة مسيحية جديدة تأذن له بالطلاق والزواج كما حلا له (وهو ما تمّ له ست مرات قبل وفاته عن 55 سنة).
ومن نافل القول ربما إن قرار هذا الملك المزواج تأسيس كنيسة جديدة فحسب لإشباع شهواته الجنسية قلب بلاده رأساً على عقب ومسّ بالتغيير الشامل سائر مناحي حياتها السياسية والاقتصادية. وبفضل مكانة إنجلترا على المسرح الدولي فقد أصاب رشاش هذا التغيير - الذي لم يُعرف له مثيل في التاريخ - أوروبا وبقية أنحاء الدنيا سواء من وقف في صف العرش الإنجليزي أو بمواجهته وحتى من اعتصم بالحياد. وهكذا غيّرت أهواء رجل واحد مجرى تاريخ العالم بأكمله.
ما أشبه الليلة بالبارحة
اليوم، ثمة أوجه شبه لا يمكن نكرانها بين الأمير هاري من جهة والملك إدوارد الثامن من الأخرى. فالزوجة التي اختارها هاري (ميغان ماركل) أميركية مطلّقة (في 2013 من المنتج الدرامي الأميركي تريفر إنغلسون)، مثل تلك التي اختارها إدوارد (واليس سيمبسون المطلّقة مرتين ثانيتهما من الضابط البحري الأميركي وين سبينسر في 1931). وقد اصطدم كل من الزيجتين بصخور "المؤسسة"... بعد الزواج في حالة هاري وقبله في حالة إدوارد. أما هذا الأخير فقد اعترضت كنيسة إنجلترا على زواجه من سيمبسون لأنها كانت وقتها لا تسمح بزواج المطلقة حتى ممات طليقها. وفي حالة سيمبسون فقد كان زوجاها السابقان الإثنان على قيد الحياة عندما أعلن إدوارد نيته عقد قرانه عليها، وتحتم على الملك أن يختار بين سيمبسون والعرش فاتبع قلبه بعد 326 يوماً من تنصيبه.
وبينما لم يجد هاري عقبة حقيقية "معلنة" أمام زواجه من ميغان فقد كشف في حواره مع أوبرا وينفري أن أحد "الكبار" في العائلة المالكة أبدى اعتراضه لأن "لون أطفالهما سيكون داكناً" كون ميغان نفسها خلاسية. و"الكبار" المشار إليهم هنا ثمانية يسمون The Firm of Eight، وهم: الملكة، والأمير تشارلز وعقيلته كاميلا، والأمير وليام وعقيلته كيت، والأمير إدوارد وعقيلته صوفي، والأميرة آن. ومهما يكن من أمر فمما لا شك فيه هو أن زواج هاري من ميغان أتاح للعائلة المالكة البريطانية فرصة نادرة تقدم فيها مساهمة جبّارة في بلسمة جراح العنصرية وإلقاء أوهام من قبيل تفوّق العرق الأبيض في سلة مهملات التاريخ... لكنها، للأسف الشديد، لم تفعل.
في الحضيض
لاحظ أن قائمة "الثمانية الكبار" تلك لا تضم ابن الملك الثاني الأمير أندرو الذي حرمت عليه والدته قيامه بأي مهام باسمها... أي أنها - في صفتها الملكية - نبذته عن الأسرة. والسبب في هذا هو علاقة الصداقة الحميمة التي كانت تربطه بالمليونير الأميركي جيفري إبستين الذي اتهم - قبل انتحاره في السجن العام قبل الماضي - بإدارة شبكة للدعارة وسط القاصرات. وقيل إن أندرو لم يكن على علم بأمر الشبكة فحسب، بل تورط شخصياً في واقعة واحدة على الأقل مع واحدة من القاصرات. وحتى قبل هذه الفضيحة المدوّية كان أندرو يلقّب Randy Andy (التي اخترنا لها ترجة "آندي الشَبِق") بسبب مغامراته النسائية العديدة. وكانت أشهر فضائحه التي لاكتها صحافة التابلويد الشعبية علاقته بالأميركية كاثلين (كو) ستارك، وهي ممثلة أفلام شبه إباحية. ويُظن أن مغامرات أندرو النسائية استمرت حتى بعد زواجه من سارة فيرغسون.
وعن سارة نفسها فحدّث ولا حرج. فقد وازنت غياب زوجها في مهامه العسكرية بنصيب وافر من الخيانة الزوجية. وقد أماطت صحافة التابلويد النقاب عن جانب من مغامراتها في 1992 عندما نشرت لها صوراً فاضحة مع مليونير النفط الأميركي جون برايان. ويقال إن أفراد العائلة المالكة – الذين لم يُخطروا مسبقاً بأمر الصور - رأوها للمرة الأولى على صفحات الجرائد وهم يتناولون إفطارهم. وفي استطلاع عقب ذلك قال 90 في المئة من البريطانيين إنهم يؤيدون تجريدها من سائر الألقاب والنعم الملكية التي تمتعت بها. وكانت هذه بداية المشوار لطلاقها من أندرو في 1996.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الثلاثي غير المرح
ثم إليك بوليّ العرش الأمير تشارلز الذي زوّجوه في 1981 من فتاة جميلة خجولة تصغره بعشر سنوات هي ديانا سبينسر في ما وُصف وقتها بأنه زواج الأمير من محبوبته في حكاية خرافية. لكن "زواج القرن" هذا، الذي نقل مراسمه التلفزيون لأكثر من 750 مليون شخص حول العالم، لم يكن في الواقع أكثر من ترتيب ملكي سياسي. ذلك أن تشارلز كان يشتهي امرأة أخرى هي كاميلا باركر بولز، طليقة الضابط أندرو باركر بولز الذي كان، من جهته، مغرماً بالأميرة آن شقيقة تشارلز. وفي فصول تليق بمسلسل درامي، جلست ديانا في 1995 أمام عدسات "بي بي سي" وأعلنت: "هذا زواج مزدحم لأن فيه ثلاثة أشخاص". ثم تحدثت ليس عن زواجها الكاذب وزوجها المخادع فحسب، بل مضت إلى حد الاعتراف بأنها من جهتها دُفعت لخيانته مع غيره (مثل تاجر السيارات جيمس غيلبي والضابط جيمس هيويت الذي يُشاع أنه والد الأمير هاري الحقيقي بسبب الشبه الشديد بينهما). وفي هذا الوضع انتهى زواج القرن بالانفصال في 1992 ثم الطلاق في 1996، ليتزوج تشارلز عشيقته في 2005. أما ديانا فقد ارتبطت عاطفياً مع جراح القلب الباكستاني حسنات خان أولاً، ثم دودي ابن الملياردير المصري محمد الفايد. وعندما لقي الحبيبان حتفهما في حادث سيارة بباريس في أغسطس (آب) 1997، أفرزت نظريات المؤامرة اتهامها قصر باكينغهام بأنه وجّه عناصر في جهاز الاستخبارات الخارجية MI6 لتدبير الحادث منعاً لاقتران أميرة بريطانية بمسلم.
الطلاقات الثلاثة
الواضح هو أن التاريخ العائلي الملكي ظل يقوم على ثالوث الزوج والزوجة والعشيقة، أو الزوجة والزوج والعشيق. ومع ذلك فهو لم يشهد أكثر من ثلاث حالات طلاق (شهيرة) منذ إسدال الستار على عهد هنري الثامن. وهذه هي: طلاق الأميرة مارغريت، شقيقة الملكة إليزابيث، في 1978، بعد اتهامات بسلسلة من المغامرات الساخنة مع مختلف العشاق، أبرزهم ميك جاغر، مغني "الرولينغ ستونز"، ومنهم رودي لولين الذي كان يصغرها بسبع عشرة سنة. أما الطلاقان الآخران فقد تمّا في 1996 ويعودان لتشارلز (من ديانا) وشقيقه أندرو (من سارة).
فيكتوريا وعبد الكريم
وخير ختام لهذه الجولة السريعة من الدراما الملكية، هي الملكة فيكتوريا، لأنها أساس بريطانيا التي نعرفها اليوم. فحتى هذه الملكة – الإمبراطورة لم تسلم من القيل والقال عن علاقات محرّمة، وذلك على الرغم من أن عهدها صار مضرب المثل في التمسك المغالي بالقيم الأخلاقية. فقيل، أولاً، إن علاقة أكثر من حميمة جمعتها بخادم هندي لها يدعى عبد الكريم، وإن هذا كان هو السبب في ترقيته إلى منصب مستشار في دائرتها الداخلية. وعزّز الاتهام أن القصر أعاد عبد الكريم إلى بلاده حال وفاة فكتوريا في 1901 ثم ضرب جداراً من الصمت حول سيرته. وكانت هذه الإشاعة من القوة بحيث أنها صارت في 2017 فيلماً سينمائياً بعنوان Victoria & Abdul يحكي تفاصيل تلك العلاقة. وقبل عبد الكريم نفسه، ربطتها إشاعات مماثلة عن علاقتها بخادم آخر لها هو الأسكتلندي جون براون، وصلت إلى حد القول إنها تزوجته سراً بعد وفاة الأمير ألبرت في 1861. وأيضاً صارت هذه العلاقة مادة لدراما تلفزيونية بثّت أول مرة في 1997 بعنوان "مسز براون" التي تعني "زوجة براون".
بشكل عام يمكن القول إن التاريخ الملكي البريطاني يكاد يخلو بالكامل من رجل اكتفى بزوجته أو امرأة اكتفت بزوجها (ربما باستثناء وحيد هو الأمير هاري لأنه نبذ نعيم القصر حماية لزوجته... ومع ذلك فمن يعلم ما يخبئه المستقبل لأمير في ريعان الشباب؟)