أصدرت المحكمة العليا الشهر الماضي حكماً مفاده بأن مجموعة من سائقي "أوبر" ليسوا متعاقدين يعملون لحسابهم الخاص، بل عاملون لدى تطبيق استدعاء سيارات الأجرة – بالتالي كانوا يستحقون حقوق العاملين كلها المرتبطة بذلك – وكان الحكم يقضي بأن تعمل "أوبر" بمقتضاه.
وهذا الأسبوع، أخذت به الشركة التكنولوجية التي تتخذ من سان فرانسيسكو مقراً لها. فقد وافقت على أن تضمن لسائقيها في المملكة المتحدة الذين يبلغ عددهم 70 ألفاً حداً أدنى للأجور، وأجوراً خلال العطلات ومعاشات تقاعد، وهو قرار أشاد به بعض الناشطين، باعتباره انتصاراً لكل العاملين في اقتصاد العمل المؤقت.
وقال مايك ريكس من الاتحاد العمالي العام "جي أم بي" GMB union: "على شركات اقتصاد العمل المؤقت الأخرى أن تأخذ العبرة. هذه نهاية طريق التوظيف الذاتي الزائف".
لكن من المذهل على رغم ذلك أن "أوبر" أفادت أيضاً مؤخرا بأنها لا تتوقع لهذا التغيير في الأجور والشروط أن يرفع كلفة الخدمات على الزبائن في المملكة المتحدة، ولا التأثير في الأرباح التي تسعى إليها.
ويزعم بعض السائقين الذين سبق أن ادعوا على "أوبر" أن الشركة لا تزال "مجحفة" في حق السائقين، إذ تبين أن الحد الأدنى للأجور لن يكون مضموناً لهم في ظل النظام الجديد إلا عندما يوصلون راكباً [إلى مقصده] طلب نقلة بواسطة التطبيق، وليس من لحظة دخولهم إلى التطبيق. ولن يستفيد عاملو توصيل السلع في "أوبر إيتس" Uber Eats من النظام الجديد. ويلقي هذا بظلال من الشك على ما إذا كان هذا الإصلاح للنموذج التشغيلي لـ"أوبر" على القدر نفسه من الأهمية المعلنة.
ويثير أيضاً التساؤل حول ما إذا كان من الممكن في واقع الأمر أن تعرض شركات اقتصاد العمل المؤقت المستندة إلى تطبيقات، مثل "أوبر" و"ديليفيرو"، أسعاراً رخيصة كالتي تعرضها على العملاء، وأن تستمر في دفع أجور محترمة إلى عامليها وتوفير ظروف عمل مقبولة لهم. وهل هناك شيء متأصل في نموذج العمل هذا يترتب عليه إلغاء إحدى السمتين [ثمن الخدمة المتدني وأجور يعتد بها]؟
أو هل قد تقع المسؤولية على عاتق أولئك منا الذين يستهلكون هذه الخدمات وهل عليهم أن يعدلوا عن توقع ان تكون أسعارها بالغة التدني؟
تزعم إحدى الشركات المستندة إلى تطبيق، وهي "جست إيت" Just Eat، أن من الممكن التعامل مع العاملين في شكل منصف في هذا القطاع مع تقديم خدمة ممتازة إلى العملاء في الوقت نفسه.
وفي ديسمبر (كانون الأول)، أعلنت الشركة، التي اندمجت مع "تيك أواي دوت كوم" Takeaway.com، التي تتخذ من هولندا مقراً لها العام الماضي، عن خطط لتقديم حقوق تشغيل كاملة إلى أكثر من ألف عامل تسليم بريطانيين جدد تشمل مكتسبات بما في ذلك الأجور بالساعة، والإجازات المرضية المدفوعة، واشتراكات معاشات التقاعد.
لكن من الجدير بالملاحظة أن نموذج "جست إيت" كان مختلفاً تاريخياً عن نموذج منافستها الكبيرة "ديليفيرو" Deliveroo (التي تخطط لإدراج في سوق الأسهم بقيمة مليار جنيه استرليني، أي حوالي 1.4 مليار دولار أميركي).
فأغلب الطلبات المرسلة عبر تطبيق "جست إيت" تسلم حالياً بواسطة منافذ بيع الوجبات السريعة نفسها. وستوظف أيضاً دراجيها، لكن ليس في شكل مباشر، بل من خلال وكالة، ويخشى بعض الناشطين أن يقوض ذلك تعهدات الشركة بضمان حقوق هؤلاء العاملين.
لكن رئيس "جست إيت" في المملكة المتحدة، أندرو كيني، أقر فعلياً (على خلاف "أوبر") في ديسمبر بأن المنافع التي تعود على عاملي التسليم الجدد في المملكة المتحدة من شأنها أن تزيد من تكاليف تشغيل الشركة. وقال إن الشركة لا تزال تعتقد أن منح المنافع [التقديمات للعمال] هو "التصرف السليم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعود بعض التعقيدات المترتبة على تقييم استدامة نماذج الأعمال في هذا القطاع إلى أن العديد من أصحاب العمل الذين يستخدمون التطبيقات كانوا تقليدياً أكثر اهتماماً بالحصول على حصة في السوق منهم بتحقيق أرباح.
وبدد بعضهم مبالغ هائلة من نقود المستثمرين لتوفير خدمات تكلفتها أقل من التكاليف [الفعلية] من أجل بناء أكبر قاعدة ممكنة من العملاء.
وعلى الرغم من الإدراج الأخير في سوق الأسهم عام 2019، لا تزال "أوبر" تبلغ عن خسائر هائلة بلغت 6.7 مليار دولار أميركي عام 2020. وأعلنت "ديليفيرو" عن خسارة قدرها 224 مليون جنيه إسترليني في عام 2020.
ويستند المنطق الاقتصادي وراء واقع الحال هذا إلى نظرية تفترض أن الشركات التي تخرج مهيمنة من هذا التزاحم الرقمي ستتمكن في نهاية المطاف من تحديد الأسعار بمعدل يضمن أرباحاً كبيرة. وسواء كان ذلك واقعياً أم لا، في وقت قد لا تكون الحواجز التي تحول دون الدخول إلى هذه الأسواق مرتفعة، كما يزعم البعض، هو موضع تساؤلات كبيرة.
بيد أن استراتيجية السعي إلى حصة في السوق تجعل من الصعب تحديد الأثر الذي قد تخلفه معاملة العاملين بقدر أعظم من السخاء في استمرارية هذه الشركات في الأجل البعيد.
وتساءل البعض ما إذا كان للمستهلكين دور في توجيه تغيير السلوك في هذه الشركات، فيختارون ربما مزودي الخدمات الذين يتعاملون مع العاملين في شكل أفضل، على غرار المتسوقين الذين يشترون الشوكولاتة والفاكهة الموسومة بوسم "التجارة المنصفة" Fairtrade.
لكن الأستاذ آلان مانينغ، الخبير الاقتصادي البارز في سوق العمل، الذي كان حتى العام الماضي رئيساً للجنة الاستشارية المعنية بالهجرة، وهي لجنة حكومية مستقلة، يعتقد أن توقع اختيار الناس الخيار الأكثر تكلفة غير واقعي.
وقال لـ"اندبندنت": "سيكون من الصعب للغاية أن نبلغ الناس بأن عليهم ألا يبحثوا حين التسوق عن أفضل صفقة [السعر الأرخص]. وأرى أن الأمر متروك للسلطات التنظيمية لوضع الإطار الخاص بمختلف هذه الجوانب".
ومن بين المشاكل الأساسية التي تواجه الهيئات التنظيمية في هذا المجال الموازنة بين الرغبة المعلنة في أوساط العديد من العاملين في اقتصاد العمل المؤقت في المرونة وبين رغبة آخرين في استقرار الأرباح وظروف أفضل.
وإذا كان المنظمون والساسة يلزمون هذه الشركات معاملة العاملين كموظفين بدوام كامل، قد يخسر عاملون كثر المرونة التي يتوقون إليها. ويدخل بعض سائقي "أوبر" إلى منصات تخص تطبيقات أخرى معنية بسيارات الأجرة، وسيمتعضون فعلياً إذا أجبرهم المنظمون على الالتزام بتطبيق واحد.
ويشير الأستاذ مانينغ إلى أن حل هذه الأحجية قد يتمثل في سوق عمل قوية تعطي العاملين في تلك التطبيقات الراغبين في مزيد من الاستقرار وظروف أفضل خيارات توظيف أكبر. وهذا قد يرغم المنصات إلى عرض رواتب أعلى للاحتفاظ بالموظفين، أو يجعلها بدلاً من ذلك مستقراً لمن يعطون الأولوية للمرونة.
ويقول: "تتلخص أفضل طريقة لإعطاء العاملين حقوقاً في منحهم الخيارات، والخيارات تأتي من سوق عمل محكمة.
إن إدارة سوق العمل في شكل مستمر أمر بالغ الأهمية حقاً. وحتى قبل جائحة كوفيد، كان تضخم الأجور هزيلاً للغاية، وهذا بالنسبة إليّ إشارة إلى أن سوق العمل لا تدار على نحو مناسب".
وإذا صح هذا الأمر، فلا ينبغي أن يركز الساسة، عندما يتعلق الأمر بتحسين رفاه العاملين في اقتصاد العمل المؤقت، على تغيير القانون وتوضيح التنظيمات فحسب، بل حري بهم أيضاً أن يحرصوا على ضمان ازدهار سوق الوظائف في اقتصاد ما بعد كوفيد.
© The Independent