يواصل الكاتب غسان شربل، رئيس تحرير جريدة "الشرق الأوسط"، في كتابه الجديد "زيارات لجروح العراق" (دار رياض الريس 2021)، توثيق الحقبة الحديثة من تاريخ العراق، الذي كان قد بدأه في كتابه "العراق من حرب إلى حرب: صدام مر من هنا"، متناولاً مرحلة ما بعد سقوط حكم "البعث" الذي قاده صدام حسين، والعقبات التي واجهت نشوء النظام الجديد على بقايا النظام السابق. والكتاب الجديد يُعد من وجهات سياسية وجيو- سياسية وعسكرية، تكملة لما تمت معالجته في الكتاب السابق، ما يجعل المشهد العراقي خلال النصف الثاني من القرن الماضي والعقدين الجديدين، يقارب اكتمال إطاره أو صورته البانورامية. طبعاً، غسان شربل ليس مؤرخاً في المعنى الرائج لمفهوم التأريخ، لكنه يؤدي دور الصحافي – المؤرخ، معتمداً المبدأ الرئيس لفعل التأريخ، وهو جمع الوثائق الحقيقية، غير المركبة أو غير المزيفة، والتي تُعد المرجع الثابت لتدوين التاريخ، سواء كان قديماً أو معاصراً. وهذا المنهج الذي يصر شربل على اعتماده، يوفر راهناً أو لاحقاً مرجعاً موثوقاً لأي عمل تأريخي لاحق. فهو ينقل الشهادات والوقائع والأحداث، وحتى المرويات، عن لسان شهود هم من قلب السلطة، وأدوا أدواراً مهمة في صناعة "التواريخ" والحقبات، وهذا ما يجعل الكتاب جزءاً من التاريخ الذي تتم كتابته. وغالباً ما كان شربل يحسن في اختيار هؤلاء "الشاهدين"، أو "اللاعبين"، مدركاً عمق معرفتهم في الشؤون السياسية واطلاعهم على أسرار الحكم والكواليس، وعلى خفايا اللعبة التي تحاك في الخفية. والأهم أن كل الذين حاورهم شربل هم قمينون على كل ما شهدوا له وباحوا به وفضحوه، متحملين مسؤولية كلامهم مهما بلغ من خطورة وجرأة.
تأريخ وتوثيق
وبين الكتاب الأول والثاني عن العراق الحديث، يتشكل مرجع تاريخي، قائم على التوثيق، يوفر مادة غنية لمن يريد تأريخ الحقبة العراقية، انطلاقاً من وقائع وأحداث وأقوال لا يمكن الطعن في صحتها أو التغاضي عن حقيقتها. وهنا يتجلى الدور المهم الذي يمكن أن يؤديه الصحافي في رفد كتب التاريخ والأبحاث، لا سيما عبر الحوارات التي تعد فناً بذاتها، والتي تتطلب معرفة وسعة اطلاع وثقافة، على مستويات عدة. ولعل هذا ما وسم الحوارات التي دأب شربل على إجرائها منذ أعوام، فهو لم يكن مجرد صحافي يطرح السؤال وينتظر الجواب لينتقل إلى سؤال ثان وثالث، بل هو يسائل من يحاوره ويحاججه ويناقشه، يتدخل حيناً، ويعلق حيناً، ويغوص في التفاصيل التي يفترضها كشف الحقائق، متسلحاً بمراجع ومعلومات وخلاصات. ومن يقرأ حوارات شربل يدرك كيف أن الحوارات تتحول في أحيان كثيرة إلى محاورات ومكاشفات شيقة ومشوقة، جراء ما تحمل من مقولات وآراء ووجهات نظر.
في كتاب "العراق من حرب إلى حرب" حاور غسان شربل شخصيات أساسية من قيادات حزب البعث: حازم جواد، صلاح عمر، نزار الخزرجي وأحمد الجلبي. وفي كتابه الجديد يحاور أشخاصاً عاشوا تحولات المرحلة الأخيرة و"تقلباتها"، وشاركوا فيها عن كثب، بصفتهم رؤساء ووزراء وجنرالات وسياسيين: جلال طالباني، هوشيار زيباري، نوري المالكي، حيدر العبادي، حامد الجبوري، عبد الغني الراوي، إبراهيم الداوود وعزيز محمد.
في المقدمة التي وضعها شربل لكتابه يوضح البعد الذي يحمله عنوان الكتاب "زيارات لجروح العراق"، ويرى أن الجروح البالغة التي تركها وراءه نظام صدام حسين زادت من حجمها جروحُ الغزو الأميركي، ثم جروحُ الاقتتال المذهبي وجروح الإطلالة الدموية لـ"داعش"، بينما بدت واضحة ملامح "إدارة إيرانية لمواقع القرار فيه". ويرى أن ما ضاعف من الجروح "انقضاض قوى كثيرة على السلطة في عملية نهب غير مسبوقة كشفت هشاشة النظام ومؤسساته". إنها الجروح التي جعلت العراق يشهد مجدداً ما يشبه "مخاضاً دموياً يصعب التكهن بنتائجه".
عدم العثور على الوطن
وفي مقاربة عامة للحالة العراقية يخلص الكاتب إلى أن مشكلة العراقيين تكمن في عدم عثورهم حتى الآن، على الوطن الذي "بدأوا رحلة البحث عنه غداة إسقاط نظام صدام حسين في 2003". وفي رأيه أن الأعوام التي تعاقبت على سقوط النظام البعثي كشفت عن أن رحيل الديكتاتورية لم يكن كافياً ليوفر للشعب أحوال الأمن والأمان. فإقبال العراقيين على الانتخابات مرات عديدة، نمّ عن فشل في العودة إلى الاستقرار. والعراق الذي تعاهدوا قبل الغزو الأميركي على العيش في ظله، لم يجد الفرصة للنهوض، أي "العراق الديمقراطي الفيدرالي الذي تتعايش فيه المكونات في ظل دولة القانون وعلى قاعدة التساوي في الحقوق والواجبات".
ويشير شربل إلى أن العراقيين كانوا قادرين في الأعوام الأولى بعد سقوط نظام "البعث"، على إلقاء المسؤولية على ما آل إليه حكم صدام، وما شهد من ممارسات أحدثت خراباً في الدولة والمجتمع. لكنهم الآن ما عادوا قادرين على القيام بالأمر نفسه، فالبلد لم تُتح له فرصة التقاط الأنفاس. ولعل المقاومة العنيفة للغزو الأميركي في الداخل "ساهمت أيضاً في استقطاب المقاتلين الجوالين الوافدين من حاضنة "القاعدة" وأشباهها"، في وقت كانت إيران وسوريا تحاولان من الخارج، المضي في عملية " إفشال أي محاولة لقيام حكومة عراقية حليفة للغرب".
وكان لا بد، كما يرى شربل، في ظل الاحتلال الأميركي الذي ألغى المؤسسات، وفي مقدمها الجيش العراقي، من أن تندلع مواجهة شيعية - سنية لم يشهدها العراق في تاريخه الحديث. وجراء هذه المواجهة، يقول شربل إن "الدم سال غزيراً بفعل خطأين فادحين ارتكبهما الفريق الذي اعتُبر منتصراً والفريق الذي اعتُبر مهزوماً". أما في الواقع فقد أخفق المنتصر "في عقلنة انتصاره"، وفشل المهزوم "في ضبط خسائره". ووفق تحليل الكاتب، كان أسلوب بعض القوى الشيعية في ممارسة الانتصار، أكبر من قدرة المعادلة على الاحتمال. والأمر نفسه ينطبق على بعض القوى السنية التي "أصرت على إحياء معادلات الماضي رافضة الاعتراف بالحقائق السكانية وتداخلها مع موازين القوى الإقليمية". هذه الخلاصة هي المقاربة الصائبة التي لا يمكن فهم المشكلة العراقية إلا على ضوئها.
يأخذ شربل على الأميركيين ارتكابهم خطأً قاتلاً في حلّ الجيش العراقي ومراهنتهم على إعادة تأسيس العراق انطلاقاً من الصفر، على غرار ما فعلوا في ألمانيا واليابان غداة الحرب العالمية الثانية. فهم كما يقول شربل، "أساؤوا تقدير الفوارق المجتمعية والثقافية والدينية والإطار الجغرافي الذي يقيم فيه العراق"، ثم اختاروا سحب قواتهم في عهد باراك أوباما "تاركين البلد الذي خلصوه من وطأة صدام في عهدة الحسابات الإيرانية البعيدة المدى".
عناصر ظاهرة وخافية
يواصل الكاتب استعراض التطورات من خلال قراءة تحليلة لعناصرها الظاهرة والخافية، وفي رأيه أن حل الجيش كان حافزاً على اندفاع عدد غير قليل من الضباط والعسكريين العراقيين إلى أحضان "القاعدة" و"داعش". وكان على البلاد أن تعاني طويلاً المآسي التي سببتها العمليات الانتحارية و"ممارسات البطش والثأر والتطهير". ثم توالت مشاهد الخراب السياسي والعسكري: في 10 يونيو (حزيران) 2014 سقطت الموصل بيد "داعش"، ثم أطلت ما يسمى "دولة الخلافة" برئاسة أبو بكر البغدادي، واحتلت أجزاء واسعة من دولتين متصدعتين، هما العراق وسوريا. ومن جهة أخرى، يرى شربل أن فضيحة انهيار وحدات الجيش العراقي في الموصل أدت إلى ولادة "الحشد الشعبي" الذي تحول جيشاً موازياً يحمل لمسات قائد "فيلق القدس" الإيراني الجنرال قاسم سليماني. وراح النفوذ الأميركي يتراجع حتى أضحت إيران "اللاعب الأول على المسرح العراقي الصاخب".
تختصر هذه المقدمة الأحوال التي شهدها العراق بعد سقوط نظام صدام وتمثل مدخلاً أساسياً لفهم ما حدث لاحقاً، وتلقي ضوءاً ساطعاً على آلية سقوط نظام وصعود "انظمة" مفتتة أصلاً ومتصارعة أيديولوجياً وعسكرياً. وتنم المقدمة فعلاً عن روح الكتاب ومهمتة التأريخية والتوثيقية القائمة على معرفة دقيقة وإلمام شامل بـ"القضية" العراقية في مراحلها المتعددة، والتي تصدى له شربل في كتابيه معاً. ويعرج شربل من ثم على ما يسميه وقوع الصحافي أحياناً في "حب البلاد التي يتابع آلامها". فلا غرابة، كما يقول، أن يقع صحافي عربي في حب العراق، هذا البلد العربي "الغني بموارده الطبيعية وطاقاته البشرية"، والذي كان مقدراً له أن يكون "قاطرة للنهوض العربي" بعد تخلصه من النظام الذي "قاده إلى أكثر من محاولة انتحار".
يعترف شربل بأن مهنة الصحافة أتاحت له فرصة أن يتابع التحولات العراقية من بغداد وأربيل وعواصم أخرى. ونظراً لاعتقاده أن الصحافة يمكنها أن تكون "حارسة الذاكرة" فقد سعى إلى توسيع آفاق الحوارات التي أجراها مع "اللاعبين" العراقيين بغية تقديم صورة عنهم وعن المرحلة التي كانوا فاعلين فيها.
استجواب اللاعبين
وبعدما أصدر كتابه السابق "صدام مر من هنا" راودته، مع استمرار المخاض العراقي، فكرة إجراء حوارات أخرى تكشف ما حصل لاحقاً. هذه الحوارات تنتمي إلى مراحل مختلفة، ومنها مرحلة ما بعد صدام، وغايتها الأولى كما يقول شربل "استجواب لاعبين بارزين عن أدوارهم وأدوار الآخرين" من أجل توفير فرصة للمقارنة بينها وإتاحة المجال أمام القارئ للاطلاع عليها وتشكيل رأي فيها. أما الغاية الثانية فتتمثل في "تسجيل هذه التجارب قبل أن يتوارى أصحابها"، ما يجعلها وثائق حقيقية وشهادات مأخوذة من اللاعبين أنفسهم وعلى ألسنتهم. الغاية الثالثة تهدف إلى وضع هذه الحصيلة من الحوارات، في تصرف الصحافيين، وحتى الباحثين والكتاب الذين انخرطوا حديثاً في متابعة الموضوع العراقي ولم يعايشوا المخاضات المتلاحقة التي قادت إلى الوضع الحاضر.
أما السياسيون الذين حاورهم فهم ينتمون إلى مشارب ومواقع متعددة، وكل منهم يحمل مكونات وحساسيات خاصة به. منهم من انتهى دوره مع نهاية عهد صدام أو قبله، ومنهم من أطل في فترة ما بعد صدام ولعب دوراً محورياً على مستويات عدة.
الرئيس الراحل جلال طالباني أول رئيس للعراق في مرحلة ما بعد صدام، لاعب قديم وعريق على المسرح الكردي والعراقي والعربي، استعاد مع شربل محطات من الماضي، وتحدث عن جوانب مجهولة، منها أن القائد الفلسطيني وديع حداد، مهندس عمليات خطف الطائرات، كلفه مهمتين خطرتين في أوروبا خلال عمله مع المقاومة الفلسطينية. ومعروف أن طالباني أدى دوراً أساسيا في حض واشنطن وطهران على التحاور حول أسرار العراق.
هوشيار زيباري، وزير الخارجية الأبرز في مرحلة ما بعد صدام، لاعب بارز على المسرح الإقليمي، وواجه صعوبات جمة منها كونه كردياً يتولى وزارة خارجية، ويمثل بلداً تحت الاحتلال. يتحدث في الحوار عن عملية عودة العراق إلى العالم العربي بعد الغزو الأميركي، ويتناول محطات سبقت الغزو، معرجاً على تجربته كقيادي في "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود بارزاني.
يضم الكتاب حواراً أيضاً مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الوافد من حزب "الدعوة" والذي يعد شخصية محورية في الحياة السياسية. والمواقف منقسمة حول المالكي، فمؤيدوه يقولون إنه اتخذ قرارات صعبة أنقذت العراق من سطوة الميليشيات، وخصومه يتهمونه بمصادرة قرار مجلس الوزراء وتغطية سياسات فئوية بينها حملة "اجتثاث البعث". ويستوقف القارئ في الحوار مع المالكي كلامه عن إعدام صدام، إذ يقول:" لم تكن أمنيتي إعدام صدام، فهذا خلاص له (...) وقفت أمام جثته نصف دقيقة، وقلت له: بماذا ينفع إعدامك؟ هل يعيد لنا الشهداء والبلد الذي دمرته؟". وفي الكتاب حوار مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الوافد أيضاً من حزب "الدعوة". وفي الحوار أبدى ارتياحه إلى تحسن علاقات العراق بأطراف إقليميين ودوليين، وانتقد النظر إلى العراق بصفته شيعياً وتابعاً لإيران.
اهتم شربل في سياق هذه الحورات بأن يسجل رواية عسكري "صاخب" هو نائب رئيس الوزراء السابق الزعيم عبد الغني الراوي. فاعترف له الراوي أنه تزعم، بدعم من جهاز "السافاك" الإيراني وبمعرفة الشاه رضا بهلوي، مؤامرة لإطاحة نظام "البعث" في بداية السبعينيات، لكن صدام اخترق خطة المتآمرين، ورد على "مؤامرة الراوي" بحملة إعدامات. وسرد الراوي كيف أمر بإعدام الزعيم عبد الكريم قاسم في مبنى الإذاعة في بغداد، متحدثا عن الحوار الأخير بين الرفيقين اللدودين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف. ولم ينكر أنه قتل الشيوعيين، مشدداً على أنه فعل ذلك استناداً إلى فتوى من رجل دين.
بين البعث والشيوعيين
في الكتاب حوار مع الفريق الركن إبراهيم الداوود الذي عين غداة عودة "البعث" إلى السلطة في 17 يوليو (تموز) 1968 وزيراً للدفاع وعضواً في مجلس قيادة الثورة، لكنه دفع إلى المنفى في 30 من الشهر نفسه مع حليفه عبد الرزاق النايف الذي اغتاله "البعث" لاحقاً في لندن.
أما حامد الجبوري وزير الدولة للشؤون الخارجية، فهو عمل عن قرب مع الرئيس أحمد حسن البكر والرئيس صدام حسين، ونظراً إلى إدارته مكتبي الرئيسين فقد تيسر له أن يسمع من البكر اعترافه بعجزه عن الاستقالة، وأنه أسير موقعه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى شربل أن الرواية العراقية لا تكتمل من دون التوقف عند العلاقة المريرة والدامية بين حزب "البعث" و"الحزب الشيوعي". من هنا كان الحوار مع عزيز محمد الذي تولى منصب سكرتير اللجنة المركزية لـ"الحزب الشيوعي" قرابة ثلاثة عقود بدءاً من 1964، أي قبل أربع سنوات من عودة "البعث" إلى السلطة. يروي عزيز محمد قصة مشاركة الحزب في "الجبهة الوطنية والقومية التقدمية"، ثم انهيار هذه التجربة وعودة الحزب إلى العمل السري. ويتوقف عند الثمن الباهظ الذي دفعه الشيوعيون في معتقلات النظام، وبينها "قصر النهاية".
في ختام مقدمته يرى شربل أن العراق ما فتئ يبحث عن نفسه، وعن موقعه وعن مصيره الذي يعني العراقيين مثلما يعني التوازنات العربية والإقليمية. وينهي: "لا مبالغة في القول إن المستقبل العربي سيبقى ناقصاً أو متعذراً ما لم يتمكن العراق من سلوك طريق المستقبل".
يكتب غسان شربل حواراته كما يكتب مقالاته، بشغف ومراس، مستخدماً لغة وسيطة هي بين المتانة والبساطة، لغة ذات نبض وعصب. ومن يقرأ الحوارات يخال نفسه يقرأ نصوصاً تميل إلى أن تكون سردية، في ما يحمل السرد من سلاسة وتشويق، لا سيما عندما تتطرق الحوارات إلى قضايا شائكة ومثيرة. ولعل ما يسم هذه الحوارات، جمعها بين دفق الوقائع والمرويات والأسرار، ومتعة القراءة التي لا بد منها هنا في صميم العمل الصحافي الحقيقي.