بعد سنوات من النقاش والجدل والاجتماعات لإيجاد حلول لإصلاح نظام البطاقة التموينية في العراق، الذي بدأ العمل به بعد فرض العقوبات على البلاد عقب غزوه الكويت في أغسطس (آب) 1990، توصلت الحكومة إلى قرار بحجب الحصص الغذائية المدعومة عن شرائح واسعة من المجتمع تعتقد أنها ليست بحاجة إليها في الوقت الحالي.
تغييرات بعد رفع العقوبات
تستند الحكومة العراقية إلى مؤشرات واقعية في هذه الخطوة تتمثل بوجود طبقة وسطى وثرية تكونت عقب سقوط نظام صدام حسين في 2003، ورفع العقوبات المفروضة على البلاد، حيث تعد هذه الطبقات مستهلكة، ولا تستخدم الحصة الغذائية المدعومة المكونة من الطحين والأرز والزيت، وتبيعها إلى وكلاء التموين بأسعار بخسة لا تتناسب مع سعرها العالمي، وخاصة الأرز والطحين.
ويبدو أن العجز المالي المستمر، وعدم وجود تخصيصات كبيرة، كان دافعاً أساسياً لاتخاذ القرار بإصلاح نظام التموين المدعوم، فضلاً عن فشل الدولة في وقف عمليات الفساد والهدر الكبير في هذا النظام، سواء فيما يخص التعاقدات، أو التأخر في التجهيز بحجج مختلفة. وكان هذا الأمر واضحاً في عديد من الملفات التي أحيلت للقضاء العراقي لاتهام مسـؤولين في وزارة التجارة بالفساد، وتمت إدانتهم بأحكام مختلفة، مثل الوزير الأسبق والقيادي آنذاك (2020) بحزب الدعوة، عبد الفلاح السوداني، وغيره من المسؤولين، لكن هذه الخطوات لم تحد من الفساد المستشري في نظام البطاقة التموينية، والذي مثل عقبة حقيقية أمام الدولة لمساعدة الشرائح الفقيرة والأكثر تضرراً في المجتمع العراقي.
الحجب عن شرائح واسعة
وعلى الرغم من قيام الحكومات العراقية السابقة باتخاذ قرارات تشمل حجب الحصص الغذائية عن بعض الشرائح، فإنها لم تنفذ بشكل جدي من قبل الوزارات العراقية، وأهملت لوجود توجه سياسي عام لعدم تطبيقها.
وسيتم تنفيذ قرار الحجب مطلع يونيو (حزيران) المقبل عن أفراد الأسرة غير المتزوجين الذين يزيد مجموع دخلهم الشهري على 1.5 مليون دينار، والمقاولين، وأصحاب الشركات، فضلاً عن نقابة الأطباء، وأطباء الأسنان، ونقابة الصيادلة، والأفراد الذين لديهم تحاسب ضريبي بأكثر من 18 مليون دينار سنوياً (12 ألف دولار)، والمسافرين خارج العراق لمدة تزيد على 3 أشهر (يتم حجبها مؤقتاً إلى حين إثبات عودتهم)، والمقيمين خارج البلاد، والعراقيين الذين يحملون جنسية البلد المضيف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما شمل الحجب أيضاً نزلاء السجون المركزية حتى الإفراج عنهم، والمتوفين داخل السجون، والمنتمين إلى التنظيمات الإرهابية، والهاربين من العدالة، العرب والأجانب واللاجئين باستثناء الأسر الفلسطينية.
الأموال أهم التحديات
يمثل العجز المالي الذي تمر به البلاد وعدم قدرة الحكومة على توفير مبالغ كافية لتلبية متطلبات البطاقة التموينية، أهم تحدٍ لتوفير مقوماتها بشكل كامل بعد تطبيق الإجراءات الجديدة.
ويقول وزير التجارة العراقي، علاء الجبوري، إن التمويل أهم التحديات التي تواجه الوزارة، لا سيما في ظل التناقص في تخصيصات مفردات البطاقة التموينية.
ويضيف الجبوري أن "عام 2020 كان استثنائياً، بالتالي ألقى بظلاله على مقومات البطاقة التموينية"، مشيراً إلى دور الوزارة، وهي وسيط يتم تخصيص الأموال لها لإجراء تعاقدات، وهي دورها توزيع مفردات البطاقة التموينية على المواطنين.
يحتاج إلى تعديلات
في المقابل، يوضح عضو اللجنة الاقتصادية في مجلس النواب، مازن الفيلي، أن هناك مقترحاً من قبل اللجنة لحجب البطاقة التموينية عن المواطن الذي يزيد راتبه عن مليوني دينار (1380 دولاراً) بدلاً مما هو موجود في مشروع الموازنة (مليون دينار)، مشيراً إلى أن تخصيصات البطاقة التموينية أقل من تريليون دينار (690 مليون دولار).
ويقول الفيلي إن "ارتفاع الأسعار في الأسواق بعد زيادة سعر صرف الدولار، ألقى بظلاله على المواطن، وتضرر الكثير من الفئات، ولهذا فإن حجب البطاقة التموينية على من يزيد راتبه على مليون دينار (690 دولاراً) سيزيد هذه المعاناة، لا سيما أن العراقيين عليهم كثير من الالتزامات المالية.
المواطن لا يتسلمها
ويشير الفيلي إلى أن المواطن العراقي لا يتسلم البطاقة التموينية بانتظام، وهي بحاجة إلى معالجة جذرية، لافتاً إلى أن انخفاض تخصيصاتها من تريليون ونصف التريليون (مليار دولار) إلى تريليون دينار خلال السنوات القليلة الماضية، وتقليل مفرداتها والفئات المشمولة، يعدان حرباً على الفقير.
الأرقام مجهولة
من جانبها، تبين وزارة التخطيط أنها لا تملك أرقاماً عن أعداد الفئات المشمولة بقرار حجب البطاقة التموينية الذي سيطبق في يونيو المقبل.
ويقول المتحدث باسم وزارة التخطيط، عبد الزهرة الهنداوي، إن الوزارة لا تتوفر لديها مثل هذه البيانات، مشيراً إلى أن "مجلس الوزراء طلب من مؤسسات الدولة كافة، تزويد وزارة التجارة بالبيانات المطلوبة".
ويعتقد خبراء اقتصاديون أن توقيت القرار الحكومي سيكون سلبياً على شرائح واسعة من المجتمع العراقي خاصة مع انخفاض قيمة الدينار العراقي وارتفاع أسعار المواد الغذائية.
إجراء غير صحيح
من جهة ثانية، يوضح الاقتصادي صالح الهماشي، أن تقليل الفئات المشمولة بالبطاقة التموينية في هذا الوقت، إجراء غير صحيح، مشدداً على ضرورة تطوير نظام البطاقة التموينية.
ويضيف الهماشي أن "هذا القرار اتخذ عام 2014، إلا أنه لم يطبق، واليوم الحكومة العراقية ترغب بتفعيله مع تقليل عدد المشمولين بالبطاقة التموينية.
10 في المئة لا تحصل على الغذاء
وشدد على ضرورة تطوير نظام البطاقة التموينية بعد ارتفاع أسعار الدولار، خاصة أن منظمة الغذاء العالمية أشارت في تقريرها إلى أن 10 في المئة من سكان العراق لا يحصلون على المواد الغذائية الأساسية، معتبراً تفعيل القرار في هذا الوقت خاطئاً، لا سيما في ظل انخفاض أسعار الدولار والقدرة الشرائية للسكان.
ويرى الهماشي أن تخصيصات البطاقة التموينية انخفضت خلال السنوات الماضية في وقت يشهد فيه العراق تصاعداً في أعداد السكان، ما أفقد البطاقة التموينية الفائدة المرجوة منها، وهي تأمين المواد الغذائية الأساسية للمواطنين، مؤكداً أن العراق لا يملك قاعدة بيانات دقيقة بعدد السكان الذين ستحجب عنهم البطاقة التموينية، لذلك لن يكون هذا الإجراء ناجحاً مئة في المئة.
ويعد إصلاح نظام البطاقة التموينية من أهم شروط المنظمات الدولية الاقتصادية لاستمرار دعم العراق في إعمار مدنه المدمرة خلال حرب "داعش"، ومنع انهياره الاقتصادي بسبب العجز المالي، ويعد صندوق النقد الدولي من أهم المؤسسات الدولية التي تضغط على البلاد لاتخاذ خطوات بهذا الخصوص.
وخلال السنوات الماضية دعا صندوق النقد العراق أكثر من مرة إلى إعادة النظر بملف البطاقة التموينية وتقنينه، كونه من ملفات الفساد الإداري المشهورة، مع مبيعات البنك المركزي اليومية للدولار.
ومنذ سقوط نظام صدام حسين في 2003 عقد صندوق النقد الدولي سلسلة اتفاقات أخرجت الكثير من القطاعات العراقية من دعم الدولة، وجعلتها أكثر كفاءة، كما حدث مع رفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطية بشكل كبير، ما ساعد على وقف تهريب جزء كبير منها إلى تركيا وإيران، فضلاً عن خطوات ساعدت في إعادة تنظيم محدود للاقتصاد العراقي، لكنها لم تستمر بسبب التدخلات السياسية التي حولت دعم الدولة لكثير من القطاعات إلى جزء مهم من تمويل حملاتها الانتخابية طوال الأعوام الماضية.