"في حياة الشعوب والأمم أيامٌ لا تنسى، حَفَرت معالمها بشكل لا ينساه التاريخُ، مهما طال الزمن أو مرت أحداث"، ومثل هذه الأيام هو الخامس والعشرون من أبريل (نسيان)، إذ تحتفل به مصر منذ العام 1982، بتحرير سيناء من العدو الإسرائيلي، حين خرج الاحتلال من كامل أراضي سيناء عدا طابا، التي حُررت في مارس (آذار) 1989، بعد سنوات عبر التحكيم الدولي.
ومع حلول الذكرى السابعة والثلاثين، اليوم، التي يستعيد معها المصريون مشاهد النضال ومقاومة العدو، التي كانت بمثابة سلسلة طويلة من الحلقات، بدأت بانطلاق شرارة حرب التحرير في أكتوبر (تشرين الأول) 1973، التي رفضت خلالها مصر ودولٌ عربية، هزيمة يونيو (حزيران) 1967، وما إن تحقق الانتصار في الحرب، بدأت حلقة أخرى من التفاوض والسلام الشاق، وصولا إلى التحكيم الدولي.
البداية حرب والنهاية سلام
بعد أيام من اندلاع حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، بدأت أولى جولات "معركة السلام"، وفق تعبير بطرس غالي، الدبلوماسي المصري الشهير والأمين العام السادس للأمم المتحدة، بالمفاوضات بين الجانبين المصري والإسرائيلي، التي عُرفت بمفاوضات الكيلو 101 في أوائل 1974، أعقبتها اتفاقيتا فض الاشتباك الأولى والثانية في عامي 1974 و1975.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في حرب أكتوبر، في مذكراته، "مرَّت ست سنوات كاملة على الهزيمة قبل أن تندلع شرارة حرب أكتوبر في الثانية وخمس دقائق ظهر السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1973، حيث انطلقت القوات المصرية معلنة بدء حرب العبور، التي خاضتها مصر في مواجهة إسرائيل، واقتحمت قناة السويس وخط بارليف، كان من أهم نتائجها استرداد السيادة الكاملة على قناة السويس، واسترداد جزء من الأراضي في شبه جزيرة سيناء، وعودة الملاحة في قناة السويس في يونيو (حزيران) 1975، كما أسفرت حرب التحرير الكبرى عن نتائج مباشرة على الصعيدين العالمي والمحلي، من بينها انقلاب المعايير العسكرية في العالم شرقاً وغرباً، فضلاً عن تغيير الاستراتيجيات العسكرية في العالم، والتأثير على مستقبل كثير من الأسلحة والمعدات".
انطلاق قطار التفاوض بعد أيام من الحرب
بعد اليوم السادس عشر من بدء حرب أكتوبر بدأت المرحلة الثانية لاستكمال تحرير الأرض عن طريق المفاوضات السياسيَّة، إذ تم إصدار القرار الأممي رقم 338، الذي يقضي بوقف جميع الأعمال العسكريَّة بدءًا من 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وذلك بعد تدخل الولايات المتحدة الأميركية والدول الأعضاء في مجلس الأمن، الذي قبلته مصر ونفَّذته مساء يوم صدور القرار، إلا أن خرق القوات الإسرائيلية القرار أدى إلى إصدار مجلس الأمن قراراً آخر يوم 23 أكتوبر (تشرين الثاني) يُلزم جميع الأطراف بوقف إطلاق النار، الذي التزمت به إسرائيل ووافقت عليه، ودخولها في مباحثات عسكرية للفصل بين القوات، الأمر الذي أدى إلى توقف المعارك في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بوصول قوات الطوارئ الدوليَّة إلى جبهة القتال على أرض سيناء.
وخلال شهري أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) 1973، بدأت مباحثات الكيلو 101 بين الجانبين المصري والإسرائيلي، تم فيها الاتفاق على تمهيد الطريق أمام المحادثات السياسية للوصول إلى تسوية دائمة في الشرق الأوسط، إذ تم التوقيع في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1973 على اتفاق يضمن التزاماً بوقف إطلاق النار ووصول الإمدادات اليومية إلى مدينة السويس، وتتولى قوات الطوارئ الدولية مراقبة الطريق، ثم يبدأ تبادل الأسرى والجرحى، واُعتبر هذا الاتفاق مرحلة افتتاحية مهمة في إقامة سلام دائم وعادل في منطقة الشرق الأوسط.
وفي يناير (كانون الثاني) 1974 تم توقيع الاتفاق الأول لفض الاشتباك بين مصر وإسرائيل، الذي حدد الخط، الذي ستنسحب إليه القوات الإسرائيلية على مساحة 30 كيلومتراً شرق القناة وخطوط منطقة الفصل بين القوات، التي سترابط فيها قوات الطوارئ الدولية، وأعقب ذلك التاريخ وتحديداً في سبتمبر (أيلول) 1975 التوقيع على الاتفاق الثاني، الذي بموجبه تقدمت مصر إلى خطوط جديدة مستردة نحو 4500 كيلومتر من أرض سيناء، ومن أهم ما تضمنه الاتفاق أن النزاع في الشرق الأوسط لن يُحسم بالقوة العسكرية، لكن بالوسائل السلمية.
زيارة السادات القدس
وبعد مفاوضات فض الاشتباك الأولى والثانية، التي كانت الأولى بين الجانب المصري والإسرائيلي، تجلَّى أول مظاهر السلام الفعلي، في كلمات الرئيس الراحل محمد أنور السادات، تحت قبة مجلس الشعب، خلال دورة افتتاح المجلس، في التاسع من نوفمبر (كانون الأول) 1977، حين أعلن قائلاً "وستُدهش إسرائيل، حينما تسمعني الآن أقول أمامكم، إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته"، ليبدأ بعدها مشوار السلام، الذي أراده، وسط مقاطعة عربية ومعارضة داخلية.
لم يكن قرار السادات وليد لحظة خطابه في مجلس الشعب، فقبل أربعة أيام، ووفق رواية، إسماعيل فهمي في مذكراته، وهو من كان وزيراً للخارجية المصرية في ذلك الحين، فقد كرر السادات استعداده للذهاب إلى إسرائيل، خلال اجتماع مجلس الأمن القومي المصري، الذي دعا إليه الرئيس في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 1977.
يقول فهمي، في مذكراته، "ران صمتٌ كاملٌ على اجتماع مجلس الأمن القومي، وكانت المفاجأة صاعقة، وهو يقول: (أنا مستعدٌ أن أذهب إلى القدس، وأن ألقي خطابًا في الكنيست الإسرائيلي، إذا كان ذلك يمكن أن يحقن دم أولادي)".
وحسب مذكرات إسماعيل فهمى، فإن وزير الدفاع الفريق أول عبد الغني الجمسي قطع الصمت المطبق من فرط الصدمة، إذ صاح فجأة وهو يلوح بذراعيه "لا كنيست... لا كنيست... ليس هذا ضروريًا"، إذ كان الجمسي، كما يصفه إسماعيل فهمى، "من الرجال الذين يلتزمون النظام بصورة تامة، فلم يكن يتدخل في الحديث، أو يُشعل حتى سيجارته، قبل الحصول على إذن، لكنه في هذه اللحظة خشى أن يكون السادات يعني ما يقول".
وفي الوقت الذي لم يكن أغلب أعضاء النخبة في مصر من عسكريين ودبلوماسيين وحتى إعلاميين متوافقين على قرار السادات، بانتهاج المسار التفاوضي، وإعلان أن "99% من أوراق اللعبة في أيدي الأميركيين"، وفق تعبيره، إلا أن المؤمنين بذلك المسار، من بينهم بطرس غالي، الدبلوماسي والأكاديمي الشهير، والأمين العام السادس للأمم المتحدة، الذي قال في مذكراته، "كان الخيار الممكن والمتاح لاستعادة الأراضي المحتلة من العدو الإسرائيلي".
اتفاقية السلام
بعد أشهر من التفاوض برعاية الولايات المتحدة الأميركية، وافقت مصر وإسرائيل، في مؤتمر كامب ديفيد سبتمبر (أيلول) 1978 على الاقتراح الأميركي بعقد مؤتمر ثلاثي في كامب ديفيد بالولايات المتحدة الأميركية، وتم الإعلان عن التوصل إلى اتفاق يوم 17 سبتمبر (أيلول) من العام ذاته، والتوقيع على وثيقة كامب ديفيد في البيت الأبيض يوم 18 سبتمبر (أيلول) 1978، ويحتوي الاتفاق على وثيقتين مهمتين لتحقيق تسوية شاملة للنزاع العربي - الإسرائيلي.
ونصَّت الوثيقة الأولى، التي حملت عنوان "إطار السلام في الشرق الأوسط"، على أن مواد ميثاق الأمم المتحدة، والقواعد الأخرى للقانون الدولي والشرعية توفر الآن مستويات مقبولة لسير العلاقات بين جميع الدول، وتحقيق علاقة سلام وفقاً لروح المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة وإجراء مفاوضات في المستقبل بين إسرائيل وأية دولة مجاورة ومستعدة للتفاوض بشأن السلام والأمن معها، هو أمر ضروري لتنفيذ جميع البنود والمبادئ في قراري مجلس الأمن رقم 242 و338.
فيما جاءت الوثيقة الثانية؛ (إطار الاتفاق لمعاهدة سلام بين مصر وإسرائيل)، ووقعت مصر وإسرائيل في 26 مارس 1979 معاهدة السلام اقتناعاً منهما بالضرورة الماسة إلى إقامة سلام عادل وشامل ودائم في الشرق الأوسط وفقاً لقراري مجلس الأمن 242 و238، وتؤكدان من جديد التزامهما بإطار السلام في الشرق الأوسط المتفق عليه في كامب ديفيد، وسحب إسرائيل كل قواتها المسلحة، وأيضاً المدنيين من سيناء إلى ما وراء الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، وتستأنف مصر ممارسة سيادتها الكاملة على سيناء.
وتباعاً، قادت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل إلى انسحاب إسرائيلي كامل من شبه جزيرة سيناء، وعودة السيادة المصرية إلى كامل ترابها المصري، وقد تم تحديد جدول زمني للانسحاب المرحلي من سيناء، ينتهي في 25 أبريل (نيسان) 1982، برفع العلم المصري على حدود مصر الشرقية على مدينة رفح بشمال سيناء وشرم الشيخ بجنوب سيناء، واستكمال الانسحاب الإسرائيلي من سيناء بعد احتلال دام 15 عاماً، وإعلان هذا اليوم عيداً قومياً مصرياً في ذكرى تحرير كل شبر من سيناء، فيما عدا الجزء الأخير ممثلاً في مشكلة طابا، التي أوجدتها إسرائيل في آخر أيام انسحابها من سيناء، إذ استغرقت المعركة الدبلوماسية لتحرير هذه البقعة الغالية سبع سنوات من الجهد الدبلوماسي المصري المكثف.
طابا... آخر محطات المراوغة الإسرائيلية في الانسحاب
وخلال الانسحاب النهائي الإسرائيلي من سيناء كلها في عام 1982، تفجَّر الصراع بين مصر وإسرائيل حول طابا، وعرضت مصر موقفها بوضوح، وهو أنه لا تنازل ولا تفريط عن أرض طابا، وأي خلاف بين الحدود يجب أن يُحل وفقاً للمادة السابعة من معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، التي تنص على أن تحل الخلافات بشأن تطبيق أو تفسير هذه المعاهدة عن طريق المفاوضات، وإذا لم يتيسر حل هذه الخلافات عن طريق المفاوضات تحل بالتوفيق أو تحال إلى التحكيم، وقد كان الموقف المصري شديد الوضوح، وهو اللجوء إلى التحكيم، بينما ترى إسرائيل أن يتم حل الخلاف أولاً بالتوفيق.
وفي 13 يناير (كانون الثاني) 1986، أعلنت إسرائيل موافقتها على قبول التحكيم، وبدأت المباحثات بين الجانبين، وانتهت إلى التوصل إلى "مشارطة تحكيم" وقعت في 11 سبتمبر (أيلول) 1986، التي تحدد شروط التحكيم، ومهمة المحكمة في تحديد مواقع النقاط وعلامات الحدود محل الخلاف، وفي 19 مارس (آذار) 1989، رفع الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك علم مصر على طابا المصرية معلناً نداء السلام من فوق أرض طابا.