ظاهرة القرن الحادي والعشرين الأكثر بروزاً في حياة البشر هي الرحيل، رغم أن الظروف التي تدفع الإنسان إلى الرحيل وُجدت منذ آلاف السنين، ورحل الإنسان بموجبها رحيلاً أدى إلى اكتشاف الكوكب، واستيطانه بشكل كامل، لكن لم يسبق لتاريخ البشرية أن بلغت معدلات الرحيل فيه هذا الحد من قبل، ولا بلغ عدد الراحلين هذا الرقم المهول، الذي يتجاوز المئتي مليون إنسان معاصر رحلوا منذ حيث ولدوا وحلوا في مكان آخر تبعاً لعشرات الأسباب والعوامل التي دفعتهم إلى ذلك، ولأن الأرض لم تعد مساحة حرة، ولم يبقَ فيها موطئ قدمٍ ليس تابعاً إلى كيان ما، فإن الشقّ السياسي للرحيل في القرن الحادي والعشرين أصبح بمستوى إلحاح شقيه الاجتماعي والثقافي، بمعنى أن التأثير المتبادل بين الرحيل والسياسة أصبح أكثر حيوية وحضوراً، لا سيما في ذلك النوع من أنواع الرحيل، الذي يسمى نظرياً بالهجرة.
إن البصمة التي يتركها المهاجرون على صفحة السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين يمكن تتبع إرهاصاتها في القرنين السابقين تقريباً، حيث أدت الهجرة إلى استحداث كيانات سياسية كبرى لم تكن موجودة من قبل، وتغيّرت تبعاً لها خريطة العالم وموازين القوى وأشكال الاقتصاد. انقسم العالم إلى عالمين: قديمٌ وجديدٌ بسبب الهجرة عبر الأطلسي، وتفككت نظرية التجانس الشعوبي في تكوين الأمم بسبب الاستعمار والعلمنة السياسية والنظم الشمولية أيضاً، وانهارت الهياكل السياسية والاقتصادية، التي كانت قائمة على احتكار موارد محدودة بعد اكتشاف موارد جديدة في بلاد أخرى، وأصبحت العوامل التي تؤثر في هجرة البشر أكثر تعقيداً من القرون التي خلت، ولعل نشرات الأخبار اليومية، لا سيما التي تأتي من الغرب، تمنح تصوراً ما حول مدى تعقيد هذه القضية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
برلمانات الدول الغربية منقسمة بين يمين يدعو إلى تقنين الهجرة وخفض عدد المهاجرين، الذين تستقبلهم الدولة ورفع معايير التقويم والانتقاء، يقابله يسارٌ يدعو إلى العكس، لكن إذا كان السبب الداعي إلى رفض استقبال المهاجرين مفهوماً إلى حد ما، فإنه قد يستغلق على بعض فهم السبب الذي يدعو الغرب إلى المطالبة باستمرار تدفق المهاجرين إلى بلدانهم؟ لا سيما وهي دول غنية، ولديها عقول مفكرة، وعجلة اقتصاد تدور بشكل حيويّ وفعال ومنتج.
إن إجابة هذا السؤال تتطلب أخذ الظروف الاقتصادية والديموغرافية لكل بلد على حدة، لكن الإجابة العامة المجردة لا تخرج من إطار واضح: الحاجة إلى النمو الاقتصادي.
في الدول التي يعتمد الدخل القومي فيها على الضرائب، فإن دخول كل مهاجر جديد داخل حدودها لا يعني بالضرورة أن الدولة ستتحمل تكلفة حياته بالكامل، لأن هذا المهاجر سيكون واحداً من اثنين: إمَّا مهاجرٌ يجلب معه قيمة مضافة إلى اقتصاد الدولة، مثل المال أو المهارات، وهذا بطبيعة الحال سينخرط في وظيفة ما، ويدفع ضرائب للدولة، وإما مهاجرٌ لا يملك المال ولا المهارات، لكن بوسعه أن يكون مستهلكاً يدفع عجلة الاستهلاك المحليّ، ويكون جزءاً من رأسمال بشريّ للمهن غير المرغوبة. أمَّا تكاليف معيشته فسيتم استقطاعها من ضرائب المهاجر الأول، الذي تمكَّن من أن يكون قيمة مضافة، هذا يعني أن الدولة حققت نمواً اقتصادياً في الناتج القوميّ، وسدّت الفراغ الديموغرافي، الذي أحدثه نقص عدد المواليد، وأسهمت في دعم الشركات المحلية برأس المال البشريّ. وبقدر ما تنجح في جلب مهاجرين أكثر من النوع الأول فإنها تنجح في تحقيق فائض يعود بالنفع على المواطنين.
المشكلة أن عملية الهجرة ليست بهذه البساطة، التي تعكسها هذه المعادلة الاقتصادية الواضحة، فالدول المستقبلة المهاجرين يجب أن تتحكم في سلسلة طويلة من العوامل، حتى يمكن أن تنتفع بالحد الأعلى من مخرجات هذه المعادلة، وهذا حدث فعلاً في فترات ذهبية مثل الولايات المتحدة في القرن العشرين، لكن هذه المعادلة معرضة للوصول إلى حد الإشباع، فالتنافس الشديد على المهاجر من النوع الأول من دول كثيرة يضغط على الدول المستقبلة المهاجرين بأن تعمل على تحويل المهاجرين من النوع الثاني إلى مهاجرين من النوع الأول في أسرع وقت ممكن، وذلك عبر التسريع من عملية التعليم والاندماج الثقافي واكتساب المهارات، وكذلك فإن المزاج الشعبي في الدول الديموقراطية قد يمنع الحكومات من تطبيق استراتيجيات طويلة المدى، في الوقت الذي تتعاقب فيه الحكومات بشكل دوريّ.