طاردت أزمات عدة الاقتصاد العالمي، ربما كان أبرزها موجة الإفلاس التي طالت ملايين الشركات على مستوى العالم، لكن مع بدء توزيع اللقاحات الخاصة بفيروس كورونا المستجد، وارتفاع الآمال في تعاف اقتصادي وشيك، بدأت الحكومات على مستوى العالم بترويض موجة إفلاس الشركات الصغيرة، لكن جاءت صدمة الموجة الثالثة لفيروس كورونا لتضع الحكومات في مأزق صعب.
وفق تقرير حديث لصندوق النقد الدولي، أصاب الوباء الشركات الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن تأثيراته سائدة في بعض القطاعات كثيفة الاتصال البشري المباشر، مثل الفنادق والمطاعم والترفيه، ونتيجة لذلك، تخاطر اقتصادات متقدمة عدة في مواجهة موجة التصفية التي يمكن أن تدمر ملايين الوظائف وتضر بالنظام المالي وتضعف الانتعاش الاقتصادي الهش بالفعل. لذلك يجب على صانعي السياسة اتخاذ إجراءات جديدة وسريعة للتخفيف من هذه الموجة.
وكشف "صندوق النقد" أن دعم السيولة الوفيرة من خلال القروض وضمانات الائتمان ووقف سداد الديون، أسهم في حماية عديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة من مخاطر الإفلاس المباشرة، لكن دعم السيولة لا يمكن أن يعالج مشكلات الملاءة، بخاصة مع تراكم الخسائر والاقتراض لدى الشركات لضمان الاستمرار، إذ تحاول تلك الشركات أن تهرب من الإفلاس إلى "التعثر" فقط مع استمرار الاعتماد على الاقتراض.
دائرة الإفلاس والتعثر تتوسع
في الوقت ذاته، تشير البيانات إلى ارتفاع موجة إفلاس الشركات خلال العام الحالي، حيث حذرت "رابطة شركات صناعة المعادن" في ولاية سكسونيا السفلى الألمانية، من ارتفاع قوي في أعداد حالات إفلاس الشركات بسبب أزمة كورونا. وأضافت أن "تجاهل الحكومة الواضح عبر نظرتها الضيقة إلى الخطر المتنامي لإفلاس عديد من الشركات، يسبب لنا قلقا كبيراً".
وأوضحت الرابطة أن تعليق البند الملزِم للشركات بتقديم طلب الإفلاس في حال عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، "أخفى المشكلة فقط، لكن في الواقع هناك قنبلة موقوتة تدق وخطر انفجارها يزداد يوماً بعد يوم". يأتي ذلك في وقت أعلنت فيه الحكومة الألمانية، أنها تتوقع عدداً متزايداً بشكل كبير من حالات إفلاس الشركات نتيجة تفشي فيروس كورونا المستجد، وتداعيات الإغلاق المستمرة منذ فترة طويلة.
وجاء في رد الحكومة الألمانية على الكتلة البرلمانية للحزب الديمقراطي، أنه "وفقاً لتقييم الحكومة سيزداد عدد حالات إفلاس الشركات بشكل واضح في 2021". وأكدت تقديرات حالية، أنه من المتوقع أن تكون هناك زيادة بإجمالي 18749 حالة إفلاس مقارنةً مع العدد المسَجل في عام 2019. وأضافت الحكومة "مع ذلك جاء أيضاً في الخطاب أنه ليس متوقعاً أن تكون هناك موجة إفلاسات كبيرة في نطاق الاقتصاد الحقيقي"، ولكن مثل هذه التوقعات مُحاطة بدرجة كبيرة من حالة عدم اليقين".
وكشفت وكالة "بلومبيرغ" في تقرير حديث، أن حوالي 347 شركة أعلنت إفلاسها في الولايات المتحدة منذ تفشى فيروس كورونا المستجد في مارس (آذار) من العام الماضي، وحتى نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) منه، بسبب الأزمات المالية العميقة التي تعرضت لها مع تطبيق سياسات الإغلاق والتباعد الاجتماعي التي تبنتها البلاد للسيطرة على الوباء، وعجز تلك الشركات عن الوفاء بالتزامتها المالية تجاه الدائنين. وتوقعت بلومبيرغ استمرار معاناة الشركات الأميركية خلال 2021، مشيرةً إلى أن قطاع العقارات سيكون أحد القطاعات الاقتصادية التي ستعاني من استمرار جائحة كورونا خلال 2021.
نتائج مثيرة للقلق
وفق صندوق النقد الدولي، فإن الأبحاث الجديدة التي أجراها خبراء تابعون له، تحدد مخاطر الملاءة المالية، لكن الصدمة في أن النتائج جاءت مثيرة للقلق. فمن المتوقع أن يؤدي الوباء إلى زيادة حصة الشركات الصغيرة والمتوسطة المتعثرة من 10 إلى 16 في المئة خلال عام 2021 عبر 20 اقتصاداً، معظمها متقدم في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
وستكون الزيادة في حجم مشابه لارتفاع التصفية في السنوات الخمس التي أعقبت الأزمة المالية العالمية لعام 2008، لكنها ستحدث خلال فترة زمنية أقصر بكثير. وتعرّض حالات الإعسار المتوقعة حوالى 20 مليون وظيفة للخطر، أي أكثر من 10 في المئة من العمال الذين توظفهم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وهو ذات العدد الإجمالي للعاطلين من العمل حالياً، في البلدان التي يغطيها التحليل.
علاوة على ذلك، فإن 18 في المئة من الشركات الصغيرة والمتوسطة قد تصبح أيضاً غير سائلة، وقد لا يكون لديها نقود كافية للوفاء بالتزاماتها المالية الفورية، ما يؤكد الحاجة إلى دعم السيولة المستمر.
كذلك، فإن الآثار المترتبة على البنوك تشكل سبباً آخر للقلق، إذ يمكن أن يؤدي ارتفاع حالات إفلاس الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى حالات تخلف عن السداد، ويسبب عمليات شطب كبيرة، ما يؤدي إلى استنزاف رأس مال المصارف.
أما في البلدان المتضررة بشدة ومعظمها من جنوب أوروبا، فيمكن أن تنخفض نسب المستوى الأول لرساميل البنوك (وهو مقياس رئيس لقوتها المالية) بأكثر من نقطتين مئويتين. وستتعرض البنوك الأصغر إلى ضرر أكبر، لأنها غالباً ما تتخصص في إقراض الشركات الصغيرة. وقد يعاني 25 في المئة منها من انخفاض بنسبة 3 نقاط مئوية على الأقل في نسب رأس مالها، في حين أن 10 في المئة قد تواجه انخفاضاً أكبر بنسبة 7 نقاط مئوية على الأقل.
قروض المشاركة في الربح
بالمقارنة مع الأزمات الماضية، هذه المرة هناك حالة أوضح لدعم الملاءة المالية من قبل الحكومات. وبسبب الحجم الضخم للأزمات التي خلفتها الجائحة، فإن تكاليف حالات الإفلاس التي يتحملها المجتمع تفوق بكثير تكاليفها على المدينين والدائنين الأفراد.
على سبيل المثال، إذا طغت موجة من حالات الإعسار على المحاكم، فقد تفشل هذه في إعادة هيكلة الشركات القابلة للاستمرار، ودفعها إلى التصفية بدلاً من ذلك. وسيتبع ذلك خسائر لا داعي لها في الشبكات الإنتاجية القيّمة ورأس المال البشري وأرقام الوظائف.
من الناحية العملية، يمكن للبلدان التي تملك حيزاً مالياً وشفافية ومساءلة كافية، أن تنظر في تنفيذ عمليات دعم شبه عادلة في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. في الواقع، بدأت دول عدة بالفعل باستكشاف هذا الخيار بنشاط، لا سيما في أوروبا. أحد الأساليب، هو أن تمد الحكومات "قروض المشاركة في الربح" من خلال قروض جديدة أو تحويل القروض القائمة. وستكون هذه القروض أقل من كل مطالبات الديون الحالية الأخرى ويمكن ربط مردودها جزئياً بأرباح الشركة.
وكشف صندوق النقد الدولي، أن استهداف الشركات المناسبة (أي تلك الشركات المتعثرة نتيجة للوباء ولكن لديها نماذج أعمال قابلة للتطبيق) أمر صعب للغاية. لهذا السبب، قد تفكر الحكومات في ربط دعمها للمستثمرين من القطاع الخاص (مثل البنوك) بضخ حقوق الملكية، الأمر الذي من شأنه أن يسمح للسوق بأخذ دور قيادي في تحديد الشركة على أنها شركة قابلة للاستمرار.
وبالفعل، اقترحت فرنسا وإيطاليا وإيرلندا، سياسات لتحفيز المستثمرين من القطاع الخاص على المساهمة في رأس المال. لكن يمكن أيضاً أن يتأرجح الدعم بمرور الوقت، ويتم نشر الشرائح الجديدة فقط عندما يتبدد عدم اليقين بشأن الجدوى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حزم تحيز شاملة
وفق صندوق النقد الدولي، ستكون عمليات ضخ شبه الأسهم الموجهة أكثر كفاءة وقوة بكثير من تقديم الدعم لكل الشركات. وتفيد حزم التحفيز الشاملة نوعَين من الشركات التي لا ينبغي أن تتلقى دعم الملاءة المالية، وهي تلك التي لا تحتاجها، لأنها قادرة على الوفاء بالديون حتى في خضم الأزمة، وأيضاً الشركات التي كانت ستصبح متعثرة حتى من دون الوباء. وهذا أيضاً يعزز احتمال أن تكون الشركات أقل إنتاجية.
وللتوضيح، أشار الصندوق إلى أنه يمكن لبرنامج الدعم المستهدَف بميزانية تبلغ حوالى 0.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للبلدان العشرين التي تم تحليلها، أن يعيد أكثر من 80 في المئة من الشركات المتعثرة ولكنها قادرة على الاستمرار، إلى صافي حقوق الملكية أي الحد الأدنى لتعريف الملاءة المالية.
وحتى مع تدابير الدعم العام، يُرجَح أن ترتفع حالات إفلاس الشركات الصغيرة والمتوسطة. لذلك، ستكون هناك حاجة إلى مجموعة شاملة من أدوات الإعسار وإعادة هيكلة الديون، حتى يتمكن نظام إجراءات الإعسار من التعامل مع الضغط الإضافي. وتتضمن هذه الأدوات آليات إعادة هيكلة مخصصة من خارج نطاق المحاكم والتقاضي، وإعادة هيكلة مختلطة، وإجراءات إعسار معزَزة. على سبيل المثال، إعادة تنظيم مبسط للشركات الصغيرة، نظراً إلى أن عمليات التصفية قد تكون مفرطة حتى في ظل إجراءات الإعسار التي تعمل بشكل جيد، ويمكن للحكومات تقديم حوافز مالية لإمالة الميزان نحو إعادة الهيكلة.
ولتأمين انتعاش قوي، تحتاج الحكومات في الاقتصادات المتقدمة إلى معالجة مخاطر ضائقة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ويمكن أن يؤدي الجمع بين دعم السيولة المستمر وضخ أشباه الأسهم وآليات إعادة الهيكلة المعززة إلى قطع شوط طويل نحو هذا الهدف.
لا بديل عن التوسع في خطط التحفيز
في السياق، أشار الاقتصادي، الدكتور عماد كمال، إلى أنه "لا بديل عن التوسع في الدعم وخطط التحفيز حتى يتجاوز الاقتصاد العالمي أكبر محنة شهدها في التاريخ الحديث، وتفوق ما تعرض له العالم من مخاطر خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008".
وأوضح كمال أن "كل القطاعات الاستثمارية تشهد موجة ركود عنيف، كما يعاني قطاع التجزئة عالمياً مع استمرار تراجع الدخل، إضافة إلى فقدان قطاع كبير من العاملين لوظائفهم، بخاصة في قطاعات السياحة والفندقة والترفيه والسفر، لذلك ستنتشر موجة إفلاس الشركات خصوصاً الصغيرة منها والمتوسطة، في حال تخلت الحكومات عن دعمها لإخراجها من المأزق الصعب الذي تواجهه منذ الربع الثاني من العام الماضي".
وذكر أن "خطط التحفيز الضخمة التي أطلقتها الحكومات على مستوى العالم منذ شهر فبراير (شباط) الماضي، وعلى الرغم من دعمها لتماسك الاقتصاد العالمي، إلا أنه كان يجب تخصيص حصص أخرى لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، بخاصة وأنه في حال ارتفاع حالات الإفلاس، فإن قطاعات أخرى ستتأثر بذلك وتحديداً القطاع المصرفي الذي كان أكبر داعم للحكومات في تجاوز التداعيات الكارثية التي خلفتها جائحة فيروس كورونا المستجد".