رحلت صباح اليوم الحمداوية الفنانة الشعبية الأشهر في تاريخ المغرب. عاشت تسعة عقود مليئة بالانتصارات وبالهزائم أيضاً. عاصرت ثلاثة ملوك وانعطفت مع البلاد في مختلف انعطافاتها منذ عهد الانتداب الفرنسي والمرحلة الكولونيالية إلى زمن الاستقلال فإلى مرحلة كانت تسمى "العهد الجديد"، وصولاً إلى اللحظة الراهنة التي عرف فيها المغرب انفتاحاً ثقافياً وفنياً كبيراً.
وعلى الرغم من أن معظم معاصريها رحلوا أو توقفوا عن الغناء، إلا أنها ظلت تقف على خشبات المهرجانات في المناسبات الاجتماعية والفنية ببنديرها (الدفّ) تغني لزمن يبدو أنه مضى ولن يعود. غير أن الحمداوية كانت سباقة في نقل الأغنية الشعبية من عوالمها البسيطة إلى أفق أرحب. وعمدت باكراً إلى إدخال الآلات الموسيقية الحديثة إلى فرقها، بدل الحفاظ على الطابع البدوي البسيط للأغنية الشعبية الذي كان يرتكز في الغالب على كمان واحد أو آلة وترية واحدة وآلات إيقاعية بسيطة مصنوعة من الطين والجلد. كما أنها نحت بألحانها نحو ما كان يسمى "الأغنية المغربية المعاصرة" لتحمل فن "العيطة" الشعبي الى الخشبة جنباً إلى جنب مع عبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي ونعيمة سميح وغيرهم من رواد الغناء العصري في المغرب.
وصلت الحمداوية إلى الغناء من باب آخر هو المسرح. فقد وقفت على خشبة أبي الفنون قبل أن تتجاوز سن العشرين، برفقة الممثل الراحل بوشعيب البيضاوي، الذي كان مشهوراً بتأدية أدوار نسائية في زمن كان من الصعب فيه أن تكون المرأة ممثلة. انطلقت الحمداوية تعيد أغانيَ من التراث الشعبي المتداول، ثم صارت تغنّي قصائد جديدة أملتها طبيعة المرحلة خلال الخمسينيات. فقد كان الاستعمار الفرنسي للمغرب يعيش سنواته الأخيرة، وصارت الحمداوية تقدّم كلمات بدت للمستعمر أنها ذات طابع وطني، بل ذات بعد تحريضي، تشجع فيه المقاومة الوطنية وتسخر من سلوكات المستعمر. ويمكن هنا تذكر أغنيتها التهكمية التي كانت موجهة للسلطان بن عرفة، الذي وضعه الاستعمار الفرنسي بديلاً للملك محمد الخامس الذي تعرض للنفي إلى جزيرتي كورسيكا ومدغشقر. وهذا ما جعل سلطات الاستعمار الفرنسي تعتقل الحمداوية أكثر من مرة.
هجرة البلاد
في تلك الفترة وجدت الفنانة الشابة نفسها مضطرة إلى هجر البلاد بعيداً من ضغط الاستعمار، غير أنها اختارت الوجهة الأسوأ على ما يبدو. فقد توجهت إلى باريس عاصمة الاستعمار نفسه. لذلك لم تتوقف ملاحقات رجال الأمن هناك لها، مما اضطرها للعودة إلى المغرب تزامناً مع خروج المستعمر منتصف الخمسينيات، ونهاية تلك المرحلة السوداء في تاريخ المغرب.
كانت الحمداوية محببة من لدن القصر الملكي نظراً بالأساس، إلى مواقفها الوطنية، فضلاً عن أصالة فنها. لذلك ظلت تترد على القصر الملكي للمشاركة في سهرات خاصة بالعائلة الملكية أو بضيوف القصر، بل إنها أسهمت في إحياء حفلة زفاف الملك محمد السادس، وحفلة زفاف الأمير مولاي رشيد.
حوّلت الحمداوية الغناء الشعبي، في تجربتها، من فنّ شعبي كان يُنظر إليه بنوع من الريبة، إلى لون غنائي ذي طابع أوركسترالي معترف به. وأسهمت بشكل بارز في أن يدخل هذا اللون إلى الإذاعة والتلفزيون، وانتقلت بفرقتها إلى العديد من بلدان العالم، محفزةً على إعادة النظر في قيمة التراث الشعبي من جهة، وفي مفهوم "الشيخة/ المطربة الشعبية"، التي كان مجرد ذكر اسمها يحيل على الكثير من القيم السلبية التي تحيط بالمرأة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كانت الشيخة في الغالب امرأة ترقص وتغني. لكنّ الحمداوية فضّلت باكراً أن تهتم بالكلمة التي تغنيها لا بالجسد. لذلك اختارت منذ بدايتها الفنية ألا ترقص. وكانت بالمقابل تحمل البندير وتعزف عليه، بل إنها هي التي كانت تضبط إيقاع فرقتها الموسيقية بنفسها.
عانت في السنوات الأخيرة من أزمات صحية متعاقبة، جعلت رواد مواقع التواصل، ومعهم بعض المنابر الصحافية الإلكترونية المتهافتة، يشيعون من حين لآخر خبر وفاتها. ومثلما عاشت المجد في زمن سابق، عاشت ظروفاً مادية مزرية في زمن لاحق. بل يمكن القول إن الحمداوية طوال حياتها كانت تعيش وضعاً مادياً وصحياً غير مستقر. وكان محبوها يصدمون من وقت لآخر حين يعرفون أن أيقونة الغناء الشعبي ورمز الأصالة الفنية لم تكن تجد ما تعيش به. إلا أنها ظلت تغني في كل مكان محاولة التشبث بالحياة في زمن تنكّر لها فيه الكثير. ولم تقرّر الاعتزال إلا في السنة الماضية، تزامناً مع حلول الوباء.
ظلّ الجميع يُضفون صفة "الحاجّة" على لقب الحمداوية، بما تحمله الكلمة من دلالات التقدير داخل المجتمع المغربي والعربي عموماً. ولن ينسى محبوها صورة تلك الفنانة المرحة التي عُرفت بـ"خفة الدم" وروح الدعابة حتى في أحلك الظروف.