على الرغم من أن دونالد ترمب لم يعد رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، إلا أن حادثاً من قبيل إجراء مقابلة معه، بعد تحوله زعيماً فعلياً للحزب الجمهوري، ما زال يشكل فرصة ذهبية بالنسبة إلى شبكات الأخبار الأميركية المحافظة. إذ لم تتخل تلك الشبكات بعد عن عاداتها في التودد إليه. إلا أن شيئاً مثيراً للاهتمام حدث أخيراً خلال ظهوره (ترمب) الاستعراضي في إحدى حلقات لورا إنغرام Laura Ingraham، المقدمة التي تعد من المعلقين المحافظين الأساسيين في قناة "فوكس نيوز"، أثناء وقت الذروة في البث التلفزيوني. إذ يُشبه ذلك الشيء [الذي حصل لتلك القناة] النكسة.
وفي حيثيات ما حصل، يظهر أن ترمب علق على جوانب مختلفة من المؤتمر الصحافي الأول للرجل الذي هزم الرئيس الأسبق في الانتخابات، وهو جو بايدن، حينما سألته إنغرام عن مشروع قانون "أتش آر 1" HR1 الذي تقدم به الديمقراطيون، وقد صُمم المشروع بهدف تحسين وتسهيل طريقة تصويت الأميركيين في الانتخابات. واستهل الرئيس الأسبق إجابته وفق ما يمكن أن يتوقعه المرء، زاعماً أنه "لن نحصل بعد اليوم أبداً على انتخابات نزيهة في هذا البلد. انظروا إلى الانتخابات الأخيرة وحدها. إنها شائنة. لقد كانت انتخابات (تشبه تلك التي تتم في دولة من دول) العالم الثالث". وأضاف ترمب "إذا نظرنا إلى الأرقام في تلك الانتخابات، فنرى أنها سارت في مصلحتنا على نحو كبير. إنه لأمر شائن أن يتمكنوا (الديمقراطيون) من تجاوز ذلك. وكذلك لم تتحل المحكمة العليا بالشجاعة".
ووفق ما نعلم، إن هذا كلام خاطئ تماماً. إذ إن بايدن فاز بأكثرية تفوق 7 ملايين صوت، كما ضمن أغلبية مريحة في المجمع الانتخابي الأميركي. وفيما تحدث ترمب على هذا المنوال قاطعته إنغرام، "كمحامية أقول إننا لا نريد التنازع حول الماضي مرة أخرى هذه الليلة". وحاولت إنغرام بعد ذلك المضي في المحادثة عبر إطلاقها تحذيراً موجهاً إلى كل مرشح رئاسي في المستقبل بضرورة "اعتماد استراتيجية قانونية سليمة"، ثم استمالت ترمب للحديث في جو أهدأ بشأن ما يفترض أنه "اجتماع محرج بين بايدن والوفد الصيني". وفي هذا السياق، يلفت الانتباه أن فقرتي مقابلة ترمب المتعلقتين بالانتخابات غابتا من حلقة برنامج إنغرام التي نُشرت في قسمين على "يوتيوب"، وذلك على الرغم من ورودهما في موقع "فوكس نيوز" الإخباري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الإطار عينه، قد يكون صحيحاً أن الشبكة الإخبارية المذكورة (فوكس) هاجمت الدعوتين اللتين تبلغ قيمتهما أكثر من مليار دولار أميركي، المرفوعتين ضد القناة من قِبل شركتي خدمة الانتخابات، "سمارتماتيك" Smartmatic و"دومينيون" Dominion، فاعتبرتهما "من دون أساس"، ووعدت بالدفاع الحازم عن تغطيتها الإخبارية حول الانتخابات وفق "التقاليد الأمثل في الصحافة الأميركية". إلا أن ذلك أيضاً يمكن تأويله بسهولة على نحو مختلف، واعتباره إشارة إلى مدى تأثير الدعوتين هاتين، المرفوعتين أساساً بسبب ما ورد من مزاعم ضد "سمارتماتيك" و"دومينيون" على قناة "فوكس نيوز".
وكذلك لا تشكل المقابلة التي أجرتها إنغرام مع ترمب أخيراً الإشارة الوحيدة في هذا الإطار. ففي نهاية السنة الماضية، ضمن برامج عدة على قناتي "فوكس" و"فوكس بيزنس"، ظهرت مقابلة غريبة مع إيدي بيريس الذي يعد "أحد المراجع الأساسيين في برامج الكمبيوتر المفتوحة المصدر المخصصة للانتخابات". وقد تناولت المقابلة موضوع آليات التصويت. وكذلك اعتبرت بمثابة تبرئة من المسؤولية (ذلك أن بيريس دحض سلسلة من الاتهامات والمزاعم المتعلقة بآليات التصويت). وعلى نحو غير اعتيادي أيضاً، كان من يُجري المقابلة (مع بيريس) خارج الكاميرا، وظهرت الأسئلة مكتوبة ومنطوقة.
وفي سياق متصل، أوقفت "فوكس" المعلق لو دوبس عن البث التلفزيوني، وهو المقدم الأبرز على قناة "فوكس بيزنس". ومن غير المتوقع أن يعود هذا المذيع. وفي المقابل، يحتاج النجاح الذي حققه دوبس إلى وضعه ضمن سياقه. ويمكن القول هنا بأنه كان المؤيد الأقوى لترمب، الأمر الذي يتطلب بعض الجهد في قناة "فوكس"، بيد أنه لم يكن جذاباً على نحو خاص بالنسبة إلى المُعلنين الأساسيين بسبب طبيعة بعض آرائه.
وفي تطور متصل، استخفت الشبكة بطبيعة الحال بما تطرحه الدعوتان المرفوعتان ضدها، لكن ذلك لم يُخفف من أهمية تلك الخطوة في لفت الأنظار. وتزامناً مع ذلك، بثت قناة "نيوزماكس" NewsMax، الشبكة الإعلامية الأصغر التي سعت إلى الالتفاف على "فوكس" من جانب اليمين السياسي، [بثّت] فقرة تُورد فيها "حقائق عن دومينيون/ سمارتماتيك". وعادت تلك الفقرة إلى الظهور أيضاً على موقع "نيوزماكس" الإلكتروني.
وعلى نحو يستدعي الانتباه، أسكتت "فوكس" أيضاً مايك لينديل خلال مقابلة أجريت معه على شاشتها عن الموضوع الذي تعرفونه (الانتخابات الرئاسية). وقد عُرف عن لينديل، المؤسس والمدير التنفيذي لشركة "مايبيلو" MyPillow، أنه أحد أشد مؤيدي مزاعم ترمب الواهية حول التزوير الانتخابي، إضافة إلى كونه من كبار ناشري الإعلانات على تلك القناة.
في المقابل، وفي ما يتعلق بالدعوتين، جاءت الدعوة التي أعدتها "سمارتماتيك" بقيمة 2.7 مليار دولار ضد "فوكس"، عقب عدد من المزاعم أدلت بها القناة حول ملكية الشركة والبرمجيات التي تبتكرها، على الرغم من الحقيقة التي تشير إلى تأمين الشركة المذكورة تقنيات الانتخابات لمقاطعة واحدة في لوس أنجليس. وبالطبع، تقع المدينة الأخيرة في ولاية كاليفورنيا، معقل الديمقراطيين، حيث لم تُحط نتائج الانتخابات بأي لبس. وتعمل تلك الشركة (سمارتماتيك) أيضاً على مقاضاة ثلاثة مقدمي برامج في قناة "فوكس"، هم لو دوبس، وماريا بارتيرومو، وجيناين بيرو.
في نفس مماثل، رفعت "دومينيون" ضد "فوكس" قبل أيام قليلة دعوى تبلغ قيمتها 1.6 مليار دولار أميركي، وقد يليها مزيد من الخطوات. كذلك تُسمي الدعوى شخصيات بارزة في شبكة "فوكس". وقد استُخدمت آلات "دومينيون" في الانتخابات على نطاق أوسع بكثير (بالمقارنة مع "سمارتماتيك")، شمل 28 ولاية أميركية من بينها بعض الولايات المتأرجحة. في المقابل، أثبت عدد من عمليات التدقيق في الحقائق التي خضعت لها مزاعم ترمب، بأن تلك الشركة أدت دوراً في منح الفوز لبايدن، (أثبت) أن هذه المزاعم لا أساس لها على الإطلاق. وكذلك يشار إلى أن الشركتين، على الرغم من الأقاويل الشائعة، لا علاقة لهما ببعضهما بعضاً.
واستطراداً، من المستطاع القول بأن هكذا اتهامات بالتزوير الانتخابي تحظى باهتمام كبير في الولايات المتحدة، أكثر مما تحظى به في المملكة المتحدة، الدولة التي طالما أُعجب ترمب بقوانينها المطبقة تجاه جرائم التشهير. إذ إن قانون التشهير يأتي هنا (في المملكة المتحدة) كي يضع على عاتق المُدّعى عليه عبئاً كبيراً من ناحية إثبات الدليل، بدل أن يكون هذا العبء على مقدم الدعوى (على عكس جوانب أخرى من القانون المدني). فينبغي على الكاتب و/أو الناشر، في هذا الإطار، أن يثبت أنه لم يُشهّر بالجهة المطالبة (أو المُدعية).
وفي المقابل، تبدو الحالة على عكس ذلك في الولايات المتحدة. وإذا اعتُبر مقدم الدعوى "شخصية عامة"، الأمر الذي قد ينطبق على الشركتين المدعيتين، سيكون عليه أيضاً إظهار أن خصمه تصرف "بسوء نية". ويمثل التعبير الأخير مصطلحاً قانونياً معناه أن المتحدث (الكاتب، أو الناشر) علم، أو يُفترض أن يعرف، أن ما أورده لم يكن حقيقياً.
وفي الولايات المتحدة، ثمة هالة تُخيم فوق ذلك الأمر كله، تتمثل في "التعديل الأول للدستور" first amendment، الذي يعتز به الأميركيون، ويضمن حرية التعبير. ومن الصعب أن يرى المرء كيف يمكن لدعاوى رُفعت ضد مزاعم مؤذية وخاطئة، أُطلقت ونُشرت من دون اعتراضات ظاهرة، أن تؤثر في هذا الإطار (على مبدأ حرية التعبير). بيد أن بعض الباحثين القانونيين، عبّر علناً عن مخاوف تتعلق بهذا الأمر.
في ذلك الشأن، قد يجد بعض الأفراد ممن وردت أسماؤهم في سياق المزاعم كفريق محامي ترمب الذي يضم رودي جولياني وسيدني باول، أنفسهم في موقع أصعب من موقع "فوكس" وأقرانها. إذ يستطيع أولئك الأخيرون أن يجادلوا بأنهم لم يفعلوا سوى "نشر الأخبار" وبث الآراء المختلفة. لكن، وفيما يتمتع جولياني بثروة لا شك فيها، ولا ينقص باول بعض المال المطلوب للقضية، إلا أنهما في النهاية لا يمثلان الجائزة الحقيقية. إذ نادراً ما يمثل الأفراد تلك الجائزة حين يتعلق الأمر بدعاوى التشهير.
واستكمالاً، يتمثل الهدف الحقيقي في دعاوى كتلك بالشبكات الإعلامية. ومن دون شك، سوف تتقلص الأرقام التي يجري الحديث عنها، بيد أنها تمثل مجرد استهلال في مسار لا بد أن يكون طويلاً ومكلفاً. وفي حال صدور حكم كبير أو تسوية تفرض على "نيوزماكس" أو "وان أميركا نيوز" One America News، الشبكة الأخرى الطامحة لأن تكون "فوكس" جديدة، فإن ذلك سيسبب لهما مشكلات جدية. إذ إن الشبكتين المذكورتين هما أكثر جِدة وأدنى درجة وأقل تكريساً وحضوراً من زعيمة المحطات الإخبارية الأميركية (فوكس).
وفي الحقيقة، إن تعرض هاتين الشبكتين لنكسة متمثلة في صدور حُكم كبير ضدهما، قد يمثل إفادة لـ"فوكس". إذ يمكن أن تتلطخ تلك "الجوهرة" في تاج عائلة مردوخ، وقد يتزحزح تصنيفها. بيد أنها تملك المصادر المطلوبة للتأقلم والتعامل مع أي صدمة، وهي من دون شك سوف تستفيد من تلاشي منافسيها.
في مسار مقابل، ستستدعي النكسة في مكانة "فوكس"، إذا خسرت الدعوى، مزيداً من التفكير من دون شك. إذ لن تسهم إلا في صب الزيت على النار بمرجل من يقولون إنها لا ترقى إلى موقع شبكة أخبار، ولا تشكل سوى آلة دعائية للحزب الجمهوري. واستطراداً، لن يسهم ذلك إلا في إجبار "فوكس" على التفكير مرتين قبل بث أي مزاعم كبيرة تتداولها عائلة ترمب. ويبدو أن ذلك حصل بالفعل.
© The Independent