كأننا هنا أمام لعبة مرايا متقابلة. لعبة يمكن أن تنطلق من واحدة من أشهر لوحات الرسام النهضوي رافائيل، لتصبّ في نظرة إنسانية عميقة كان من النادر للفن أن يتوصل إلى التعبير عنها قبل ذلك "البورتريه" الذي رسمه رافائيل لصديقه المفكر والدبلوماسي بالتاسار كاستليوني. ففي البداية كان الأمر يتعلق بواحدة من تلك البورتريهات المتكاثرة التي دأب الرسامون النهضويون في إيطاليا كما في غيرها من البلدان الأوروبية على رسمها لسراة القوم، بعدما كفّ فن البورتريه عن أن يكون مكرساً لرجال الدين أو الملوك أو اللوحات التاريخية التي كانت تبدو قريبة جداً من فن البورتريه، على رغم نهلها من المخيلة لتخليد ملامح الشخصيات التاريخية في لوحات بديعة راحت تزين الصالونات خارج الكنائس.
الحياة تقلد الفن
اللوحة التي نتحدث عنها إذاً هي البورتريه الذي رسمه رافائيل (1483–1520) لبالتاسار كاستليوني (1478–1529) والذي سيتخذ معنى آخر تماماً إن نحن ربطناه هنا بكتاب وضعه هذا الأخير، واعتبر من أبرز مؤلفات تلك المرحلة وعنوانه "رجل البلاط" il libro del cortegione، ولا بد أن نحدد هنا أن اللوحة التي رسمها رافائيل لصاحب الكتاب أُنجزت في العامين 1514–1515، ما يعني طبعاً أن ظهور الكتاب لاحق على إنجاز اللوحة، بالتالي فإن الربط بينهما سيأتي لاحقاً، لكن هذا التفاوت الزمني لن يهم كثيراً طالما أننا نعرف أن رافائيل وغيره من المفكرين ومن رجال النهضة الإنسانيين كانوا يعرفون كاستليوني عن كثب، وأنهم لم ينتظروا صدور كتابه الأساسي حتى يضفوا عليه تلك السمات التي سيتحدث هو في كتابه عن وجوب توافرها في "رجل البلاط" القريب من تصوره للرجل الكامل. ومن هنا من الواضح أن تلك المواصفات التي يريدها بالتاسار إنما استشفها رافائيل بشكل مسبق من مواصفات المفكر الإنساني نفسه. ومن هنا نتحدث عن لعبة مرايا تتعلق بسمات صوّرها الرسام لتُفهم لاحقاً في ارتباطها مع المفكر، ما يضفي على اللوحة دلالات جديدة وتسجّل نقطة لصالح الفنان الذي بدا هنا كما لو أنه يطبق تلك النظرية التي تتحدث دائماً عن الحياة نفسها حين تقلد الفن.
أول المرايا
ولكي لا يبدو ما نتحدث عنه هنا وكأنه لعبة كلمات متقاطعة، سيكون من المفيد أن نضع النقاط على الحروف: لقد رسم رافائيل صورة لصديقه كاستليوني شاء منها أن تعبر تماماً وفي العمق، ليس عن المواصفات الدقيقة والحقيقية للسمات الخارجية لذلك الصديق المفكر ورجل البلاط والدبلوماسية فقط، بل عن تلك الروح الجوّانية التي لا شك أنها هي ما يطالع الناظر إلى اللوحة أول ما يطالعه لدى مشاهدتها معلقة اليوم في إحدى قاعات متحف اللوفر، أو بالأحرى، مشاهدة النسخة الثانية منها هناك، علماً بأن رافائيل قد رسم لوحتين متشابهتين لكاستليوني، ثانيتهما (1519) هي المعلقة في اللوفر (ويبلغ ارتفاعها 82 سم. مقابل عرض يصل إلى67 سم). ومن المعروف أن هذه النسخة كانت من ضمن مجموعة دوق أوربينو قبل أن تتحول إلى مجموعة الكاردينال الفرنسي مازارين وينتهي أمرها في اللوفر.
صورة مثالية وأكثر
المهم أن اللوحة أنجزت في روما حيث كان رافائيل يعيش ويرسم وفي فترة كان كاستليوني يزور فيها تلك المدينة المشعة كسفير للدوق أوربينو، وارتبط بصداقة عميقة مع الرسام الذي سيتخذه من فوره "موديلاً" لتينك اللوحتين اللتين لفت الأنظار فيهما، كون الرسام من خلال تثبيته لملامح كاستليوني بدا وكأنه يثبت ملامحه هو نفسه. هنا وإضافة إلى الشبه المطلق بين ملامح "الموديل" وملامح كاستليوني، بدا واضحاً أن الملامح في البورتريه تكاد تكون ملامح رافائيل نفسه في امتزاج مدهش بين روحي الصديقين. ولكن كذلك في تعبير، مقصود بالتأكيد، عما يراه الاثنان معاً من سمات الإنسان المثالي بالمعنى المطلق للكلمة. فما رسمه رافائيل هنا، وقبل أن يرسم كاستليوني بقلمه الصورة المثالية لرجل البلاط في كتابه، الذي سيحوز شهرة ومكانة كبيرتين بعد اللوحة بأكثر من عشرة أعوام، هو الإنسان كما يجب أن يكون بل تحديداً: الإنسان كما يمثله صديقه خير تمثيل بعمق تعبيره ونظرته السموحة، هو الذي تمثله اللوحة ناظراً إلى المشاهد بصفاء وثقة ليس بالنفس فقط بل بالمشاهد أيضاً. ولئن كان التواضع المطلق يلوح من منظر يدي كاستليوني وهو يضعهما فوق بعضهما البعض، فإن الملابس على فخامتها تعكس بألوانها القاتمة إنما الغنية صورة لذلك التواضع نفسه. ولسوف يقول مؤرخو الفن إن رافائيل لو أراد أن يرسم نفسه لرسمها على تلك الشاكلة وبذات الألوان. ومن هنا "لعبة المرايا" التي نشير إليها، ناهيك بأن ثمة من بين المؤرخين من يربط هذه اللوحة، وفي العديد من سماتها، بلوحة "الموناليزا" لليوناردو دا فنشي، التي كان رافائيل من كبار المعجبين بها، هو الذي عبر مراراً عن رغبته في أن ينجز لوحة تقترب منها. ويبدو أنه فعل ذلك في هذا البورتريه.
كتاب النهضة
لكن الأهم من هذا هو "لعبة المرايا" الأخرى التي يمكن الحديث عنها بصدد "الموديل" نفسه. وذلك من خلال توقفنا عند كتابه "رجل البلاط" الذي لكثرة ما استخدمت لوحة رافائيل في تزيين الطبعات اللاحقة منه، كان لا بد من إقامة ربط محكم بين اللوحة والكتاب. بل كان لا بد لبعض المؤرخين من القول إن كاستليوني يبدو في الكتاب وكأنه يتطلع إلى أن يكون "الإنسان الكامل" الموصوف فيه، وكأنه محاولة لوصف اللوحة نفسها، ولوصف مزدوج له ولرافائيل من خلال اللوحة، وصفاً يريد أن "يجمع" في رجل البلاط النهضوي كل الفضائل والحسنات التي ينبغي أن تجتمع في الإنسان الذي يستحق أن يكون إنساناً، بحيث تتضافر لديه مواصفات فروسية القرون الوسطى وثقافة وإنسانية عصر النهضة. كان لا بد من أن يمتلك رجل البلاط الكامل، ضرورة أن يكون مثالاً يحتذى بالنسبة إلى كل إنسان، أي لا بد له من أن يكون مزوداً بالأسلحة الحقيقية، أسلحة العلم والثقافة في آن معاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أفلاطون في الصورة
من ناحية مبدئية يبدو واضحاً هنا استلهام كاستليوني لأفلاطون، وليس فقط على صعيد مضمون الكتاب والأخلاقيات التي يرى أن على ذلك "الإنسان النهضوي الكامل" أن يتسم بها، بل كذلك على صعيد الشكل، حيث أن نص الكتاب يتألف من حوارات على النمط الأفلاطوني الذي كان بالغ الرواج في تلك الحقبة. ولقد أجرى الكاتب الحوارات بين عدد من الأشخاص المعروفين ناهيك بأن تلك الحوارات طاولت ذكر مناقب وحسنات عدد كبير من شخصيات تاريخية، من الواضح أن الجمع بينها هنا يشكل نوعاً من صهر مجموعة كبيرة من المناقب والصفات في بوتقة واحدة لن يكون من السهل إيجادها في شخص واحد بالطبع، ولكن عدداً كبيراً منها يتجمع في أشخاص مميزين يقترب كل منهم بشكل أو بآخر مما يعتبره كاستليوني "رجل البلاط الكامل"، أو بالأحرى "إنسان البلاط الكامل"، طالما أن ثمة بين الشخصيات التاريخية التي تُذكر، عدداً لا بأس به من النساء.
أكثر من بورتريه
منذ صدوره ومن ثمّ ترجمته إلى عدد لا بأس به من اللغات الأوروبية، حقق الكتاب نجاحاً كبيراً إلى درجة أنه سرعان ما راح يُعتمد كدليل في مجال السلوك في القصور الأوروبية، وراح الكتّاب يستلهمونه وليس في مجالات الفكر والعلم والتربية فقط، بل حتى في المجالات الإبداعية، حيث نعرف أن كتاباً كباراً من طينة رابليه ومونتانيْ وشكسبير وتسربانتس قد قرأوه واستلهموه وكثيراً ما أثنوا عليه، من دون أن ينسوا في طريقهم الإتيان على ذكر لوحة رافائيل، باعتبارها أكثر من مجرد بورتريه يحاول أن ينقل صورة صادقة لشخصية مميزة، بل يتجاوز ذلك ليعبر عما هو أكثر من ذلك بكثير.