يأخذ سجن "كوبر" الواقع في مدينة الخرطوم بحري في العاصمة السودانية، رمزيته من كونه أحد أقدم السجون السودانية وأشهرها على الإطلاق، ولتحوله إلى أحد أهم الأماكن التي يجب أن يمر عبرها المدافعون عن الحقوق من السياسيين المعارضين في السودان. ويضفي دخول زنازينه زخماً على قاطنه ويمنحه دفعاً وصدقية لدى الجمهور، لا لسبب سوى إنه دفع ثمن نضاله احتجازاً في السجن الأشهر في البلاد.
البشير آخر النزلاء
وأعلن المجلس العسكري الانتقالي في السودان أخيراً نقل الرئيس المعزول عمر البشير إلى "كوبر". وتناقلت صحف محلية أنباء عن تدهور حالته الصحية. كما أُعلن عن احتجاز بعض رموز النظام السابق فيه، أبرزهم نائبا البشير السابقان علي عثمان محمد طه، وأحمد هارون. وفور إعلان نبأ احتجاز البشير سرت موجة سخرية بين المواطنين، ليس لأن خاتمة مشوار البشير الذي حكم البلاد ثلاثة عقود، كانت فيه، إنما لأن البشير نفسه كان أحد قاطني حي "كوبر" حيث يقع السجن. وتتلخص السخرية بأن البشير لم يغادر حي كوبر سواء كان رئيساً حاكماً، أو رئيساً معزولاً.
وفي تلخيصه لحال المعاناة التي يلقاها النزلاء السياسيون داخل السجن يقول الطبيب علي مطر، الذي أُفرج عنه في 11 أبريل (نيسان) الحالي "أخبرنا السجّانون بأننا مطلقو السراح، كانوا في حالة هياج ودفعونا دفعاً إلى مغادرة الزنازين، حتى إنهم لم يسمحوا لنا بحمل أمتعتنا التي تقتصر على الملابس فقط". وتابع مطر "كان أحد الضباط يأمرنا بالركض للخروج وعندما سألته لماذا؟ أجاب بأن أعداد المتظاهرين الذين أتوا لاستقبالنا لو لم يجدونا في الشارع مطلقي السراح لهدوا أسوار السجن عليهم". ويختتم مطر حديثه بالقول "وأنا أسير نحو الخارج، تذكرت الأشهر الثلاثة التي أمضيتها في داخله، كنت سعيداً بنبأ إطلاق سراحنا وعزل البشير، لكن الخاطرة الأقوى التي كانت تسيطر عليّ هي أن أحرص على ألّا أعود إلى هنا مجدداً، وأن تنشأ دولة القانون التي تنهي أسطورة زنازين سجن كوبر إلى الأبد".
تاريخ طويل مع العسكر
وللسودان منذ نيله الاستقلال في العام 1956، تاريخ طويل مع الحكم العسكري الذي مارس أساليب مختلفة من تقليل دور الأحزاب والتضييق على الحريات على مر العصور. وامتدت حُقب الحكم العسكري إلى نحو 52 سنة من تاريخ البلاد الحديث.
كوبر في "الأدبيات السياسية"
ويحتفظ رجال السياسة السودانيون في أدبياتهم بمقاطع تبجل "سجن كوبر" وتمنحه رمزية النضال. ويبدأ المعتقلون المطلق سراحهم من ذلك السجن، حديثهم على مختلف المنابر، بالقول إنهم عبّروا "عن الأمة وضميرها". ويقول مقطع شعري بالعامية السودانية "ودانا لي كوبر، مشى شعبنا معانا" أي أن الحاكم أقحم مَن يدافعون عن القضايا العامة في السجن، غير أن الشعب ذهب لإخراجهم منه.
وتجسّد ذلك المقطع في 11 أبريل (نيسان) الماضي، عقب إعلان المجلس العسكري الانتقالي عزل الرئيس السابق عمر البشير، وإطلاق سراح معتقلين سياسيين كانوا في "كوبر". وفور إعلان المجلس القرار، توجّه آلاف المحتجين الذين كانوا في ساحة الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم إلى مقر السجن، الذي يبعد عنهم مئات الأمتار ويفصلهم عنه نهر النيل الأزرق، وانتظروا لحظة إطلاق سراح المعتقلين.
وقال أحد المحتجين "لم نكن نسير... كنا نركض إلى مقر السجن، حتى لا تفوتنا تلك اللحظة التاريخية". وأضاف "كنا نردد الهتاف الذي نحفظه منذ كنا طلاباً في الجامعة: ودانا لي شالا، عزتنا ما شالا، ودانا لي كوبر مشى شعبنا معانا". ويُقصَد بـ "شالا"، سجن شالا في غرب السودان، حيث يُحتجز أيضاً معتقلون سياسيون. لكن سجن "شالا" وسجن "دبك" لا يحظيان بالشهرة التي يتمتع بها "كوبر".
تأسيس السجن
ويعود قرار تأسيس السجن إلى الحاكم البريطاني إبان فترة الاستعمار، الجنرال كتشنر باشا، الذي أمر ببنائه في مدينة الخرطوم بحري، وافتتح في العام 1903، إلا أن غالبية المباني الكبيرة للسجن التي تحولت إلى أماكن أثرية، ما زالت مستخدمة حتى اليوم، وبناها الحاكم العسكري البريطاني السير ريجنالد وينجت الذي حكم السودان في الفترة ما بين العامين 1899 و1916، وفق تصميم هندسي يحاكي سجون بريطانيا، وتحديداً سجن برمنغهام، وفق روايات تاريخية.
شُيِّد السجن على قطعة أرض تبلغ مساحتها نحو خمسة آلاف متر مربع، كانت بعيدة من المناطق السكنية عند التأسيس، لكنها باتت الآن في وسط مدينة الخرطوم بحري شمال العاصمة. ويطل "كوبر" على شارع رئيس، وفي موقع قريب من جسر القوات المسلحة الذي يربط الخرطوم بالخرطوم بحري.
دور مصري
ووفق محاضر تاريخية، يُعتبر أول السجناء السودانيين في "كوبر" مَن أبعدتهم السلطات المصرية في القرن الماضي بتوجيهات من القصر الملكي بسبب نشاطهم السياسي وانتقادهم دور ملك مصر ووقوفه مع البريطانيين لاحتلال السودان في العام 1898.
عزل السياسيين
ويتمثل الهدف من بناء "كوبر" في عزل السياسيين الوطنيين عن المجتمع، وحبس النزلاء الخطرين من المجرمين، وحتى الآن يُسجن فيه المجرمون الذين يواجهون أحكاماً بالإعدام، إلى جانب المدانيين بعقوبات السجن المؤبد والأحكام الطويلة المدة، لكنهم لا يحظون بشهرة المسجونين السياسيين.
ويمتاز السجن بكبر حجمه وعلو أسواره الخارجية، إذ نُصبت على الأسوار أبراج تطل على الاتجاهات الأربعة، حيث يمارس حراسٌ رقابة محكمة على النزلاء.
وتعود تسميته وفق إحدى الروايات إلى مسؤول بريطاني يُدعى "كوبر" تولّى إدارة منطقة الخرطوم بحري إبّان الاستعمار، فأولاه اهتماماً خاصاً وثابر على زيارته وتفقد نزلاءه وعُرف بمعاملته الطيبة، حتى سُمّي المكان باسمه. ويتبع السجن إلى الحكومة الاتحادية وليست له علاقة بولاية الخرطوم بحري سوى أنه موجود فيها.
التقسيمات الداخلية
ويضم "كوبر" 14 قسماً، من بينها قسم المحكومين بالإعدام، وقسم أرباب السوابق، وآخر لذوي الأحكام الطويلة والقصيرة، وأقسام أخرى للمُنتظرين، وقسم للمعاملة الخاصة لكبار الموظفين الذين يدينهم القضاء بأحكام سجن، وأُلغي هذا القسم حديثاً، وفق تقارير محلية. أما القسم السياسي فهو الأشهر على الإطلاق، بسبب ارتباط سجنائه بتقلّبات الحكم في السودان. ومن أشهر زنزانات سجن "كوبر"، زنزانة "الاستقامة" التي كانت تُعرف بـ"البحيرات".
أشهر الإعدامات داخل السجن
وعلى الرغم من التاريخ الطويل للأحكام التي نُفذت في ذلك السجن، إلا أن إعدام المفكر السوداني محمود محمد طه، في العام 1985 كان أشهرها على الإطلاق، إذ سمح رئيس البلاد آنذاك جعفر النميري، بحضور عدد من المواطنين إلى ساحة الإعدام في وسط السجن، لرؤية طه الذي يعرف في أوساط السياسيين والمثقفين السودانيين بـ"الأستاذ"، إذ حوكم بتهمة الردة نظراً إلى أفكاره التجديدية التي لا تزال مثار خلاف بين الكثيرين حتى اليوم.
كما أُعدم في "كوبر" ضباط شباب بقيادة البكباشي علي حامد في العام 1959، في أعقاب فشل محاولة انقلابية ضد حكم الفريق إبراهيم عبود (1959 – 1964)، ثم إعدام نظام الرئيس السابق جعفر النميري، قيادات الحزب الشيوعي السوداني في العام 1971 في أعقاب فشل الانقلاب الذي قاده الرائد هاشم العطا، فأُعدِم أمين عام الحزب عبد الخالق محجوب، وأمين عام اتحاد نقابات عمال السودان، عضو اللجنة المركزية لاتحاد العمال العالمي الشفيع أحمد الشيخ.
وكانت عقوبة الإعدام تتمّ في السابق، داخل السجن في تمام الساعة الثالثة فجراً، وتغيّرت مواعيد تنفيذ الإعدامات بعد العام 1983 إلى الثالثة ظهراً. ومن أشهر الشخصيات السياسية السودانية التي لقيت حتفها داخل السجن، أول رئيس سوداني عقب استقلال البلاد إسماعيل الأزهري الذي توفي داخل السجن، في فترة حكم النميري نتيجة عدم تلقيه الرعاية الطبية.
الهروب الكبير
وشهد السجن في العام 2010 أشهر حادثة هروب في تاريخه، عنونتها وسائل الإعلام السوداني المحلية بـ"الهروب الكبير"، إذ تمكن 4 متهمين بقتل الدبلوماسي الأميركي بالخرطوم جون غرانفيل في العام 2008 من الهرب بعد دخولهم السجن بسنتين عبر مجاري الصرف الصحي. وشكلت تلك الحادثة حرجاً كبيراً للحكومة السودانية السابقة التي كانت تحاول دفع تهم الإرهاب ورعايته التي كانت تحوم حولها. وأشار مراقبون إلى أن الحكومة تساهلت في ضبط عملية الهروب ومراقبتها نظراً إلى استحالتها، بسبب وضع السجن وطريقة تشييده.