منذ سنوات، يسعى القائمون على "متحف باريس للفن الحديث" إلى رصد معارضهم لتسليط الضوء على فنانين كبار بقوا في دائرة الظل أو لف النسيان إنجازاتهم الفنية العظيمة. وضمن هذا السعي يندرج تنظيمهم حالياً معرضاً استعادياً للسوريالي الروماني فيكتور برونر (1903 ــ 1966)، فهذا الفنان، بخلاف رفاقه داخل مجموعة أندريه بروتون، لم يحظ بعد بالانقشاع الذي يستحقه، على الرغم من أهمية عمله القصوى وبعده الرؤيوي الأكيد. معرض لا يفوت إذاً لكونه يسمح، بمضمونه الغني وطريقة ترتيبه، بنفض الغبار عن مغامرة فنية فريدة في راديكاليتها وثمارها.
"أنا الحلم، أنا الوحي"، كتب برونر في رسالة إلى بروتون عام 1940. جملة تعكس أهمية الحلم والإبداع لديه وتضعه في قلب الشعرية السوريالية. لكن لماذا لم يبلغ هذا الفنان الشهرة التي بلغها ماكس أرنست، رونيه ماغريت أو سلفادور دالي؟ أولاً، لأنه بقي رومانياً في نظر المحيط الفني الباريسي، على الرغم من استقراره في العاصمة الفرنسية منذ عام 1932 وحتى وفاته، ومشاركته اللافتة في نشاطات المجموعة السوريالية حتى عام 1947. ثانياً، لأنه استقى مفرداته الشكلية لا من فن الرسم الأوروبي، بل من الفنون الشعبية التي تبلرت خارج أوروبا، ومما سيُعرف لاحقاً بالفن الخام. وأخيراً، لأن معظم النقاد لم يفهموا كما يجب افتتانه الباكر ومعرفته العميقة بالسحر العلوم الباطنية، والعبقرية الرؤيوية التي استثمر بها هذا الافتتان وتلك المعرفة داخل فنه، على الرغم من تحقق الرؤى التي أسقطها داخل لوحاته، وفي مقدمها فقدانه عينه اليسرى عام 1938 الذي تنبأ به منذ عام 1931. تجربة مأساوية كان لها تأثيراً كبيراً على حياته وفنه، ودفعت به نحو لجج الباطن والحلم.
حضور الذات
في حال أردنا وصف عمل برونر، لقلنا إنه يتسم بالإيجاز اللاذع لنصوص مواطنه سيوران، وبالبعد الأخلاقي لفنان عرف كيف يعري عنف زمنه من دون مغادرة عمق ذاته. ولا عجب في ذلك، فهذا العمل هو ربما الأكثر سيرذاتية داخل الفن الحديث، لكن أيضاً ــ وبالنتيجة ــ الأكثر شمولية. عمل تطور في السر، ولعله احتاج هذه السرية كي يتمكن من فرض نفسه اليوم كمعادل، في قوته وثرائه وتنوعه، لأعمال رفاقه السورياليين، لكنه يتفوق عليها بالتأكيد في غموضه المثير.
وفعلاً، برونر هو رائد الأساطير الشخصية ومبتكر عالم يشكل بجانبه السحري نقيضاً لبربرية القرن الـ 20 التي اختبرها مع صعود الفاشية. وقبل كيث هارينغ وجان ميشال باسكيا، أسس لفن رسم يرتكز على مفردات صورية تشكل لغة أو نظام استعارات أكثر ديمومة من الأجساد، وأكثر صلابة من الظروف. وفي عمله فضح بشكل مبكر حالة الارتهان التي نعانيها اليوم، رجالاً ونساء، وتنبأ قبل غيره باحتدام أسئلة موضوع النوع الجنسي (gender). أما جماليته الطقوسية فهي أكثر من مجرد وعدٍ بالسعادة، على طريقة الكاتب ستندال. إنها عيد للروح والخيال، هدية من حلمٍ ووحي لمعاصريه، لنا وللأجيال القادمة، والعين التي تنقصنا لنرى.
لذلك، يشكل عرض عمل هذا العملاق اليوم، بكل ثرائه وتنوعه، ضرورة. ومع أن معرضه الحالي يحترم التسلسل الزمني لمراحل مسيرته الفنية وثمارها، لكن الرهان الذي يتحكم بعميلة تنظيمه يكمن في عرض، إلى جانب إسهامات برونر الأكثر شهرة في تاريخ الفن الحديث عموماً، والفن السوريالي تحديداً، أعمال ومراحل من عمله أقل شهرة أو مجهولة كلياً. وفي هذا السياق، نكتشف داخله إنتاج الفنان في بداياته الذي يعبر بفضول حيوي وحس ابتكاري لافت مختلف التيارات الفنية التي ظهرت مطلع القرن الماضي، مثل التكعيبية، التعبيرية، التشييدية، الدادائية. ثم ننتقل إلى الأعمال التي أنجزها في بوخارست انطلاقاً من عام 1927 ضمن الجمالية السوريالية التي اكتشفها لدى زيارته الأولى إلى باريس عام 1925، أي قبل لقائه ببروتون وانخراطه في مجموعته عام 1933. لوحات ورسوم صور فيها عالماً مبتكَراً وشديد الغرابة يظلله تهديد الفاشيات المتصاعدة في مختلف أنحاء أوروبا.
العين الخيالية
بالتالي، قبل حلول الثلاثينيات، حدس برونر بخطر التوتاليتاريات. شعور لم يغادره قط، بل طبع بقوة عمله اللاحق، كما يتجلى ذلك في ابتكاره شخصية رهيبة في تفاهتها ووحشيتها ــ "السيد ك." ــ استوحاها من شخصية "أوبو" (ألفرد جاري)، وتذكرنا بأن ثمة طاغية يكمن في كل واحد منا. وتحضر المرحلة السوريالية من مسيرته من خلال أعمال ذات مضمون سياسي وشحنة كاريكاتورية فاضحة، ومن خلال تأمل في كلية حضور العين في أعماله، التي ترتبط بحادث فقدانه عينه اليسرى عام 1938 الذي تنبأ به في رسوم مختلفة وخصوصاً في "بورتريه ذاتي" (1931). العين كعضو الرؤية الذي يمكنه أيضاً أن يتحول إلى عضو الخيال القادر على "تذكر المستقبل". وسواء تعلق الأمر بتنبؤ حقيقي أو بـ "مصادفة موضوعية"، كما حددها بروتون، لم يتردد رفاقه في وصفه بـ "الرائي" أو "العراف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما مرحلة عمل برونر خلال الحرب العالمية الثانية، فتحضر في المعرض برفقة وثائق من أرشيفه الخاص تنيرها وتحدد طبيعتها، كالنصوص التي كتبها داخل عزلته ومراسلاته التي تشهد على ظروف حياته الصعبة آنذاك، وعلى غنى المصادر الخيميائية والأدبية التي سقت لوحاته ورسومه وقطعه الفنية المختلفة. مرحلة استكشف الفنان فيها، مثل كاهن ساحر (chaman)، قوى الكون الغامضة ودروب الوحي السرية وحدوده السوداء، وابتكر تقنية "الرسم بالشمع" التي تقوم على تغطية سطح اللوحة بالشمع (مادة خيميائية بامتياز) والرسم عليها بواسطة الحك والحفر. تقنية قادته إلى استخدام غير مألوف للرسم واللون، وإلى التخلي عن البعد الثالث والعمق داخل لوحاته، وإلى تأويل شخصي للعالم من خلال تحولات وتهجينات غريبة تتراكب فيها أشكال بشرية بأخرى حيوانية ونباتية.
وتختم المعرض أعمال نموذجية من مرحلة ما بعد الحرب تسمح بمقاربة مختلف السلاسل التي وقعت نشاط برونر الفني خلال السنوات الأخيرة من حياته، مثل سلسلة "أساطير" أو سلسلة "عيد الأمهات" أو سلسلة "رِهاب الكلمات" التي أعاد فيها ابتكار كائناته الهجينة وتاق، بمحاكاته الفنون البدائية والحضارات القديمة، إلى خلق لغة تشكيلية جامعة.