تناولت أربعة معارض تشكيلية الحرائق التي اجتاحت الأراضي السورية في العام الفائت، سواء التي أتت على حقول القمح والشعير في الجزيرة السورية، أو تلك التي اجتاحت مساحات واسعة من الكروم والزيتون وأشجار الصنوبر والسنديان في غابات الساحل السوري. وبدا أن لهذه الأعمال النصيب الأكبر من اهتمام المحترف التشكيلي السوري، الذي يشهد اليوم ما يشبه قيامة بعد إغلاق العديد من الصالات، ومغادرة العديد من الفنانين إلى الخارج.
المعرض الأول جاء بعنوان "حريق وحرقة" للفنان بديع جحجاح، وقدم فيه أربع عشرة لوحة (أحجام مختلفة- إكرليك على قماش) توزعت في فضاء صالة "ألف نون للفنون والروحانيات" وفيها ذهب جحجاح لتمرير ما يشبه مقطعيات تسجيلية عن المحرقة السورية، مستعيراً عنوان كتاب "ذاكرة النار" للأديب الأوروغواياني إدواردو غاليانو. وجاء في دليل المعرض "الحرائق التي التهمت زيتون الجبال اشتعلت في روحي، فجأة غرقت في الرماد ورائحة الموت، فللأشجار أرواحها أيضاً. تهاوت أعشاش الطيور في أعالي الأشجار. وحدها الغربان كانت تنعق في هذه المذبحة".
الفصول المتعاقبة
وشرع جحجاح قبل أشهر في رسم مشروع عن الأشجار في دورانها الأبدي عبر تعاقب الفصول وطبقات الخصوبة، ليجد نفسه فجأة محاصراً باللهب، كما يقول. هكذا اندحر الأخضر لمصلحة الأحمر في لوحاته، مصوراً دم الأشجار لحظة النزيف، مصدراً عبر لوحاته مرثية للصنوبر والزيتون والقمح في حمى لونية سعى من خلالها إلى إطفاء حريقه الشخصي نحو ذاكرة النار والرماد والولادة.
هذا ما انعكس جلياً على اشتغال بديع وتأسيسه أعماله التجريدية، وعكس بقوة مراحل مختلفة من التكوينات والتوشيحات اللونية، التي استخدم فيها الفنان السوري الألوان الحارة والترابية، مصوراً طيوراً سوداء وسط ألسنة من لهيب، وأشجاراً متفحمة تتصاعد من أغصانها أعمدة النار. وعكف جحجاح في لوحات أخرى على تصوير الدرويش أو راقص المولوية يطوف بثوبه وهو يحترق، وهي مقاربة لأجواء صوفية لطالما اشتغل عليها في معارضه السابقة، مشخصاً لمناجاة داخلية تدعو لإيقاف سعير النيران السورية المشتعلة منذ عشر سنوات.
ويقدم معرض "حريق وحرقة" مشهديات صادمة قوامها التوليف اللوني بين درجات من الأحمر والبرتقالي والأصفر والبني، جنباً إلى جنب مع أطياف لأشخاص يصرخون من قلب النيران ويستجدون العون لإخمادها. ويجسد الفنان بذلك مناخات بصرية درامية، ناقلاً عبارة الشاعر أدونيس "آخر ما غرده طائر في غابة تحترق مع إسقاط مفاهيم كتاب "التحليل النفسي للنار" للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884-1962) إضافة لعبارات محمود درويش من مثل: "كم عذبوك يا أختي الشجرة".
محاولات لتفسير الحرائق
الفنان نزار صابور أقام معرضه "أنا في سورية" بتقديم ست مجموعات توزعت على ستين لوحة (أحجام مختلفة) برزت فيها مجموعة بعنوان "محاولات لتفسير الحرائق"، وتألفت من أربعة عشر عملاً، وفيها واصل الفنان والأستاذ الجامعي أسلوبه الرمزي في محاولة قراءة الخراب وتفسيره في ما أطلقه من عنوان على مجموعة من لوحاته، حيث نلاحظ التخييل اللوني، والتقنية الحاذقة في رسم خطوطه، وتظهيرها في تجاور لافت بين مفاهيم الحب والحرب بما سماه "محاولات لتفسير الحب"، وفيها يستنبط الفنان صابور التراث والأشعار القديمة، والشخصيات والسير الشعبية، من مثل أشعار مجنون ليلى، من مثل "إليك عني إني هائم وصب، أما ترى الجسم قد أودى به العطب".
وجعل الفنان صابور معرضه الذي احتضنته صالة "زوايا" فاصلة في تجربته التي عمل عليها منذ عقود. واستقى دلالات كثيفة ومحددة عن البيئات السورية، مستلهماً الأيقونة في عمله، متفرداً في غزارة الرمز ونحته على سطوح اللوحة، نحو ما يشبه منمنمات لونية اعتمدت على حجوم صغيرة، وأخرى كبيرة. ورسخ تعدد الأساليب في التجربة الذاتية للفنان التشكيلي، من دون أن يستغني عن ملامح مختبره المفتوح على مدارس وتيارات الفن التشكيلي في العالم، بل بالعمل على تنويعات رشيقة، ودرجات مختلفة من اللونية الممزوجة مع الرمز والكتابة على اللوحات. وقد استنبط من العمارة السورية في بعض المدن والمزارات السورية القديمة، خالصاً إلى هوية خاصة في قراءة المكان، وتلخيصه بصرياً، وجعل التوازن البصري في أعماله نوعاً من التضاد مع الدمار، ورؤيا لتشكيل مدينة بعيداً عن جحيم الحرب المضطرم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعمل صابور الحائز على شهادة دكتوراه في فلسفة الفنون من موسكو على مستويات من التجريد، مازجاً أبعاداً جمالية للوحة مع أبعاد ذهنية، لم تغب عنها بهجة اللون ومرحه. واستطاع مزاوجة الأفكار والألوان في ثنائيات هندسية كالدائرة والمثلث، مبحراً في سينوغرافيا قوامها تواريخ وبشر وأماكن، كان الفنان نزار صابور قد استمدها من بحثه المضني في الذاكرة السورية البعيدة والقريبة، لا سيما من قسمات المدن الآرامية والنواويس (التوابيت) التدمرية الأفقية. وذلك وسط مناخ مهيب من الإحالات البعيدة عن المباشرة الفنية، والعميقة في إسقاطها على الصوفي والعرفاني.
مراحل إبداعية
النحات أكثم عبد الحميد قدم هو الآخر معرضه الأضخم في صالة "تجليات" منتشلاً خامات متنوعة من الخشب والبازلت والبرونز والرخام، ومجسداً تكوينات مختلفة عن العائلة السورية، والمرأة في أعمال رأسية، وأخرى بأحجام طبيعية نحت إلى التجريد. إضافة الى تكوينات حيوانية كالديك والثور وسواها، وقد تعامل فيها النحات السوري مع الكتلة والفراغ من زاوية خاصة، ناقلاً منحوتاته الخمسين في المعرض إلى آفاق تعبيرية، ومرتقياً بالخامة الصماء إلى منطلق الخامة المعبرة.
هذا التغيير في مفهوم الخامة من الناحية التعبيرية، لم يلغِ حضورها في معرض عبد الحميد كأحد العناصر الأساسية التي يتركب منها الشكل. وذلك لاحتواء أعماله على البعد الثالث الملموس، والبعد الرابع الذي تنشأ منه الأبعاد الثلاثة، ألا وهو عنصر الضوء الذي يتركب منه الحجم الضوئي مكوناً البعد الرابع في فن المجسمات.
واشتغل الفنان عبد الحميد على منحوتاته اللافتة كنتيجة فعلية في مجال رؤيته للمجسمات في الواقع الحقيقي، ومن منظور الجمال، والتي يقول عنها "الخامات الطبيعية تحيط بنا من كل جانب، وفيها يكمن المحتوى الفكري والجمالي. ما توجب علي الغوص في داخلها، مكتشفاً أسرارها وكينونتها لمعرفة أبعادها الحقيقية، ولأستخرج منها أشكالاً جديدة لا تبتعد عن الواقع، بل تفرض نفسها على الحياة نفسها لتصبح واقعاً موازياً لها. وفي تجليات تجربتي في هذا المعرض تتبلور مراحل إبداعية في المنظور الزمني، متجولاً على ضفاف عدة خامات".
ويجنح النحات عبد الحميد في أعماله إلى ليونة في حواف الكتل، ومرونة واضحة في تكييف الخامة وصقلها، والتغيير من طبيعتها الاعتيادية نحو محاولة تطويعها لأبعاد جمالية مغايرة، ولتروي قصة الخلق والموت والولادة في تكوينات أنثوية رشيقة تتداخل فيها الصورة والمادة لإعادة إنتاج الأسطورة، والتنويع على تصورات جديدة ومعاصرة، حيث تنبع سطوة العمل الفني عند هذا النحات من خبرته الطويلة، ومن مشاركاته العديدة في ملتقيات نحت دولية توزعت بين كل من "إسبانيا، وألمانيا، وروسيا، وفرنسا، وإيطاليا، وقبرص".
الطبيعة الصامتة في مواجهة الحرب
الفنان عمار حسن خاض غمار التجربة أيضاً في معرضه المعنون "بدء" الذي قدم فيه قرابة تسعين لوحة من (أحجام مختلفة) غطت فضاء صالة "عشتار للفنون"، ناهلاً بقوة من جماليات الطبيعة الميتة، ومتفرداً في غوصه في مكنوناتها. وذلك عبر ما يشبه مختبراً مفتوحاً لإنجاز عوالم دمجت بين التجريدي والسريالي، فبرزت في أعمال هذا الرسام القدرة على الغوص في عالم من الطبيعة الحالمة، من دون الوقوع في تصويرها مباشرة، بل عبر استلهامها، وإعادة توليدها عبر خامتي الحبر والأكرليك.
وتميزت أعمال حسن في تلك التوشيحات اللونية الهادئة، والتي حاول من خلالها الفنان والناقد السوري مقاربة البيئة الجبلية، مؤلفاً بين كتل من الصخور والمشاهد المائية والأشجار. وضمنها مناخات أقرب إلى سديم اللطخات اللونية الباردة، التي أبرزت تقنيات عالية لدى الفنان في استحضار أجواء خاصة لأعماله، وتوضيب مزاج من أطياف وأشباح الأشجار والحجارة والينابيع، وذلك عبر تداخلات شفافة تارة، وحالكة تارة أخرى.
واستطاع عمار حسن إيجاد توازنات بصرية على سطوح لوحاته، متنقلاً بخشوع بين مفردات الطبيعة التي عايشها لسنوات في مسقط رأسه، مسجلاً مساحة تأملية لهذه الطبيعة. واستغرق في تدبيج الجمادات والنباتات ضمن تقسيم محكم لنسب الضوء والظلال، والتأسيس لأعماق مترامية للعناصر. وهذا ما يجعل اللوحة التي يعمل عليها عمار حسن رداً على بشاعات الحرب، وهروباً من يومياتها الدموية، نحو نقاء المناظر الصامتة، وقدرتها على خلق معايشة فطرية ذات خبرات جمالية جديدة، كان الرسام حسن قد اشتغل عليها لسنوات قبل الإعلان عن معرضه الدمشقي الأول.