لا تبدو العلاقات الروسية - التركية في أفضل حالاتها، وهي كلما شهدت تحسناً تعود لتقترب من الانهيار والصدام. وسبب الانهيار الأخير كان الموقف التركي من السلطات الأوكرانية.
ففي حين تتهم روسيا تلك السلطات بالتحضير لهجوم على المناطق الشرقية في أوكرانيا، التي يقطنها نحو 400 ألف شخص من أصول روسية، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعمه لأوكرانيا وزودها بأسلحة بينها طائرات من دون طيار من طراز "بيرقدار" بدأت العمل فعلياً في أجواء منطقة النزاع.
ولم يكتفِ أردوغان بذلك، فهو بعد تأكيده مراراً في السابق، رفضه ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، استقبل في خضم التصعيد حول الدونباس في الشرق الأوكراني، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وبحث معه في إسطنبول إمداده بالسلاح وإرسال مدربين يقومون بتدريب جنوده على تشغيل "بيرقدار"، وعرض عليه الاستحواذ على المصنع الأوكراني الذي ينتح محركات الطائرات Motor Sich الذي كانت الصين تستعد للاستثمار فيه.
على الفور، برزت أصوات في موسكو تقول إن الرئيس التركي تخطى الخط الأحمر. ودعت صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" إلى إفهامه "كشريك" أنه مخطئ، والتعبير عن ذلك "بلغة الضغط الاقتصادي".
وفي رأي الروس، أنه كان على أنقرة أن تفهم الواقع منذ عام 2016 "عندما فرضت موسكو عقوبات على إسقاط تركيا المقاتلة SU-24فوق سوريا، لكن يبدو أن تركيا لم تستوعب الدرس".
الرد الروسي المباشر على سياسة أردوغان الأوكرانية كان وقف الرحلات الجوية إلى تركيا بحجة تفشي وباء كورونا فيها. وبحسب الإحصاءات الروسية فإن 80 في المئة من الإصابات بالعدوى بين المواطنين الروس تعود لمواطنين كانوا في زيارة لتركيا. إلا أن هذا التبرير لا يبدو مقنعاً أو كافياً، لا للأتراك ولا الروس، وهم يعتبرون قرار وقف الرحلات المتخذ على أعلى المستويات السياسية الروسية، قراراً سياسياً بامتياز هدفه الضغط الاقتصادي على السلطات التركية عبر حرمان أنقرة من نحو مليون سائح روسي كانوا سيمضون عطلاتهم خلال الشهور المقبلة في بلاد الأناضول، ما يعني خسارة تركيا ملايين الدولارات التي كانت ستضخ في صناعتها السياحية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يلعب أردوغان لعبة خطيرة مع موسكو مثلما يحاول أن يلعب مع أطراف إقليميين ودوليين آخرين. هو يعرف أن موسكو تحتاج إليه في خلافاتها مع الغرب، ونموذج تعايشهما المتوتر في سوريا مثال للعلاقة المصلحية المؤقتة، لكنه أيضاً، يخشى مواجهة مع الغرب، فهو عضو في حلف الأطلسي، ويطمح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويحاول ألا يقطع السبل أمام محاولاته تعزيز مواقعه في عالم متغير.
هو ارتباك تركي زاده التغيير في الإدارة الأميركية حدةً. وبلغ الارتباك حد القلق مع امتناع الرئيس الأميركي جو بايدن عن الاتصال بأردوغان الذي اعتاد الاتصالات الهاتفية المباشرة مع الرئيس السابق دونالد ترمب، ولم تعوض رسالة الدعوة التي وجهها بايدن إلى أردوغان للمشاركة في قمة الفيديو حول المناخ (22 من الشهر الجاري) عن القطيعة المكشوفة، كما لم تستفز مسارعة الرئيس التركي إلى إدانة وصف بايدن لبوتين بـ"القاتل"، الإدارة الأميركية، ولم تُثر كثيراً انفعال الرئيس الروسي.
قد يكون اهتمام الرئيس التركي الزائد بدعم سلطات أوكرانيا محاولةً أخرى للتقارب مع الإدارة الأميركية وتأسيساً لنقطة لقاء مع الاتحاد الأوروبي في شأن المسألة الأوكرانية. وهذا ما لا تحتمله روسيا، خصوصاً أن أردوغان "العثماني" لا يكف عن التذكير بالتوسع الروسي على حساب السلطنة العثمانية، نحو أوكرانيا والقرم وضفاف البحر الأسود.
والروس لا يضعون جانباً إثارة مثل هذه الذكريات عندما يربطها الرئيس التركي بعدم الالتزام بمعاهدة المضايق بعد عام 2023 (فمعاهدة مونترو 1936 التي تنظم الحركة في البوسفور والدردنيل هي تطوير لمعاهدة لوزان الأم عام 1923، ويعتبر أردوغان أنها تنتهي بعد عامين، وهي أصلاً قامت بين السلطنة المهزومة والحلفاء...)، وسعيه الحثيث إلى جمع البلدان الناطقة بالتركية في القوقاز ووسط آسيا في جبهة تحاصر روسيا من الجنوب وتبني جيشاً موحداً باسم الجيش الطوراني، أي جيش القومية التركية التي انتعشت في نهاية العهد العثماني.
في نهاية الشهر الماضي عقد اجتماع قمة عن بعد لتلك الدول (تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزباكستان بمشاركة تركمانستان (ليست عضواً في المجلس التركي)، تم فيه البحث جدياً "بتنفيذ مشروع عموم تركيا"، ولم يعارض أحد من المشاركين فكرة الجيش الطوراني سوى رئيس كازاخستان السابق نور سلطان نزارباييف... ويعرف أردوغان أن مثل هذا التجمع لا يزعج أميركا، في خصومتها مع روسيا، لكنه يزعج روسيا، ومعها إيران التي تسعى بدورها لإيجاد امتدادات لها في المنطقة.
وربما يعتقد أردوغان أنه يخدم السياسات الأميركية بذلك، وفي السياق يمكن تفسير انفتاحه المفاجئ على مصر، الدولة التي سعى منذ 2013 لنسف نظامها، كما يمكن إدراج وقفه رواتب الميليشيات السورية التابعة لأنقرة في سياق تعدد الأهداف والمحاولات لرئيس يشعر بعزلة جدية.
فوقف رواتب "الجيش الوطني السوري" بعد استخدامه في ليبيا وأذربيجان وضد أكراد سوريا يمكن اعتباره رسائل لأطراف عدة في آنٍ واحد: واحدة للغرب فحواها وقف دعم الإرهاب، وأخرى للروس تعني الالتزام بالاتفاق بين الطرفين في موضوع منطقة خفض التصعيد، وثالثة للنظام الإيراني ورئيس النظام السوري بشار الأسد تظهر ليونةً في المعركة حول إدلب!
يبحر الرئيس التركي في محيط متلاطم من دون أن يتضح تموضعه النهائي. أثار غضب روسيا من دون أن يكسب تعاطف الأميركيين. أحرج حلفاءه في تنظيم الإخوان من دون أن يكسب مسارعة مصر إلى الاحتفاء به، وها هي ليبيا تستعد للخلاص من القوات الأجنبية وفي مقدمتها التركية، في حين يحسب أنصار تركيا من السوريين ألف حساب لمغزى الموقف التركي منهم.
بحسب إحدى الصحف الروسية، تمثل تصرفات أردوغان "سياسة شرقية كلاسيكية... إنه يحاول المناورة بين لاعبين خارجيين كبار". على أن بقية اللاعبين، ومنهم الرئيس التركي، سينتظرون، كما يبدو، ما سيفعله الكبار عندما يلتقي بايدن وبوتين، وهذا اللقاء بات في حكم المؤكد، على الرغم من العاصفة الأوكرانية وانخراط الزعيم "الطوراني" في تعقيداتها.