على غير العادة، مرّ ظهور زعيم تنظيم داعش، إبراهيم عواد البدري، الملقب بـ "أبي بكر البغدادي"، مرور الكرام على الطبقة السياسية والشارع في العراق، فيما اهتمت به نخبة من المتابعين لشؤون الجماعات المتطرّفة، ما يكشف حجم التراجع الذي يسجله ملف "الإرهاب" في هذا البلد الذي يسعى إلى التعافي من آثار حرب دامت سنوات، وخلفّت أعداداً كبيرة من الضحايا، وتسببت في دمار كبير.
ظهر البغدادي، في آخر تسجيل مصور، وزع الاثنين، يجلس في خيمة، أو غرفة غُلفت جدرانها بالقماش للتعمية على ملامحها خشية الاستدلال إلى المكان، وهو يتحدث عن مضامين عديدة، حرص خلالها على الإشارة إلى أحداث وقعت حديثاً، لتأكيد حداثة الفيديو.
لكن الفقر الفني بدا واضحاً خلال التسجيل الفيديوي، إذ لم تستطع الكاميرا الوحيدة التي استخدمت في التصوير أن تجسّد ملامح الإبهار التقنيّ التي اعتاد التنظيم التركيز عليها خلال إصداراته السابقة.
بدا البغدادي خلال حديثه، بعيداً من البلاغة العميقة التي طبعت لغة آخر ظهور له في الموصل العام 2014، إذ جاء حديثه ركيكاً في العديد من المواضع. لكنه في المقابل، ظهر في صحة جيدة، ليضع حداً لتصريحات جهات أمنية عديدة في العراق وسوريا عن إصابته بجراح بليغة أو مرضه، وأحياناً مقتله.
يقول الخبير المتخصّص في شؤون الجماعات المتطرّفة هشام الهاشمي، إن "ظهور البغدادي على ما يبدو جاء لأسباب ضغط داخل التنظيم، حيث كانت الاستعدادات الفنية ضعيفة وأقل جودة مما هو معروف عن مؤسسة الفرقان (المنتج الفني لإصدارات تنظيم داعش)".
خلية خاصة لمتابعة زعيم داعش
يضيف الهاشمي، الذي يستقي معلوماته من أجهزة الاستخبارات العراقية، أن "العراق يسهم منذ سبتمبر (أيلول) 2018 في خلية خاصة شكلت بالتعاون مع العمليات الأميركية الخاصة للبحث عن البغدادي، ونجحت حتى الآن في إسقاط 13 احتمالاً عن أماكن وجوده من أصل 17 احتمالاً"، مؤكداً أن هذه الخلية أصبحت قريبة جداً من حصر الاحتمالات، التي يشير أقواها إلى وجود زعيم داعش في (وادي حوران) في صحراء الأنبار غرب العراق، أو بادية حمص السورية.
يعلّل الهاشمي، قلّة اهتمام الساسة العراقيين بظهور البغدادي الأخير، بأن زعيم تنظيم داعش لم يعد يشكل خطراً وجودياً كما كان في السابق، فضلاً عن انشغالهم بخلافات سياسية داخلية كبيرة.
وعلى الرغم من الأهمية الجوهرية التي يحظى بها الملف الأمنيّ في المشهد العراقي، إلا أن حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، لا تزال من دون حقيبتَي الدفاع والداخلية، بعد مرور نحو ستة أشهر على تشكيلها، بسبب الصراع السياسي المحتدم بين مختلف الأحزاب، للظفر بواحدة منهما.
وباستثناء إشارة متحدث عسكري عراقيّ إلى أن أجهزة الاستخبارات تعكف على تحليل التسجيل المذكور لتحديد حقيقة نسبته إلى البغدادي، لم يصدر عن بغداد تعليقٌ رسميٌ في هذا الشأن.
لكن اللافت، أن البغدادي شدّد على مصطلح "الاستنزاف"، في إشارة إلى استلهام نموذج تنظيم القاعدة في "الكرّ والفرّ"، بعدما انهارت خطط تنظيم داعش في حيازة أرض يحكمها، إثر طرده من أهم المدن التي سيطر عليها في العام 2014.
وربط البغدادي، بين خطة "الاستنزاف" وتشديده على أن معركة داعش "باقية إلى الأبد"، في محاولة لجذب الأنظار إلى أن خطر التنظيم لا يزال قائماً.
داعش يستلهم نموذج القاعدة
بين العامين 2005 و2008، قاد تنظيم القاعدة عملية استنزاف كبيرة ضد القوات الأميركية والعراقية في البلاد، فضلاً عن منشآت عسكرية ومدنية، وأسواق وتجمعات تجارية، باستخدام الانتحاريين والسيارات المفخّخة والعبوات الناسفة، ما تسبب في سقوط آلاف القتلى والجرحى في صفوف المدنيين والعسكريين.
ولم يكن تنظيم القاعدة، بخلاف داعش، يحاول السيطرة على منطقة ما وإدارتها، بقدر محاولته إيقاع خسائر بشرية ومادية، تضمن لعملياته الظهور في صدارة الأخبار.
واضطرّت القوات الأميركية، إلى الاستجابة لهذه الإستراتيجية الجهادية، التي هدّدت النسيج الاجتماعي للسكان الشيعة والسنة، وأشعلت حرباً طائفية في البلاد، من خلال زيادة عدد مقاتليها في العراق، في إطار ما عرف حينها بـ "موجة زيادة القوات"، بقيادة جنرال المارينز الأميركي ديفيد بترايوس، الذي تحوّل لاحقاً ليصبح مدير وكالة الاستخبارات المركزية.
الذئاب المنفردة
يقول خبراء، إن تنظيم داعش، سيلجأ إلى إستراتيجية "الذئاب المنفردة"، المستنسخة من تجربة "الكرّ والفرّ" التي طبّقها تنظيم القاعدة، للبقاء في الساحتين العراقية والسورية، خلال الأعوام القليلة المقبلة. وتقوم هذه الإستراتيجية على نشر شبكات صغيرة، في مناطق متباعدة، لا ترتبط بقيادة مركزية معروفة، وتتلقى التعليمات عبر شيفرات يجري تداولها على المواقع الجهادية في شبكة الإنترنت، لتنفيذ هجمات انتحارية، أو تفخيخ سيارات وزراعة عبوات ناسفة.
وفي حال ألقي القبض على عناصر أي شبكة، فلن تتمكن من الإدلاء بمعلومات مفيدة عن اللشبكات الأخرى، ولا عن القيادة، لأنها لا تمتلكها.
ويعتقد الهاشمي، أن "ظهور البغدادي سيعطي شحنة أمل لأنصاره، ويكثّف استجابتهم له، ويُبطل توسّع عمليات الانشقاق والتمرّد، داخل تنظيم داعش، ويقلّل من عتب الأتباع على غيابه الطويل، وكذلك ُيبطل الإشاعات التي تُخبر عن خروجه بعيداً من جغرافيا العراق وسوريا".