صدر للكاتب السعودي محمد الساعد، كتابٌ بعنوان "سفر برلك... قرنٌ على الجريمة العثمانية في المدينة المنوّرة"، الكتابُ جاء بعد ستِ سنواتٍ من مقالةٍ شهيرةٍ للكاتب محمد الساعد نُشرت في موقعِ "العربية نت" في العام 2013 تحت عنوانِ "مائة عام من جريمة سفر برلك العثمانية"، أثارت جدلًا واسعًا في حينها.
يذكر أنّ المقالَ، كان الأولَ الذي رصد تلك الحادثةَ، وقد نُشر بعد مرو مئة عامٍ على الجريمة التركية في المدينة المنورة، الأمرُ الذي دفع بالكاتب إلى تحويل المقال إلى كتابٍ يرصدُ فيه الجريمةَ على الرغم من شحِّ المعلوماتِ وندرتها.
يرصدُ الكتاب واحدةً من الجرائم المروّعة التي ارتكبتها الدولة العثمانية تحت مسمى "سفر برلك"، ولحقت بالإنسان العربيّ خلال القرن الماضي، وتم التستّر عليها طويلاً بسبب هيمنة خطابِ الخلافةِ المزوّرِ الذي كان يسوّقه العثمانيون الجدد.
الجريمة حدثت وقائعها قبل أكثر من مئة عام هجريّ بحق أهالي المدينة المنوّرة، وتحديدًا في العام 1334هـ - 1915مـ، عندما اقتحم الجنود الأتراك المدينةَ المنوّرة، قادمين من إسطنبول، مدجّجين بالسلاح والفظاظة والأوامر الصارمةِ لتحقيق هدف واحدٍ فقط هو تهجيرُ سكان المدينة المنوّرةِ وترحيلهم قسرًا إلى خارج الجزيرة العربية.
ويوضحُ الساعد في كتابهِ أنّ تلك الجريمة - أي الـ"سفر برلك" وتعني بالعربية "التهجيرَ القسريّ" - كانت محاولةً لتحويل المدينة المنورة إلى ثكنة عسكرية تمهيدًا لتتريكها لاحقًا ومن ثم فصلها عن الحرم المكيّ الشريفِ وإلحاقها تمامًا بالدولة العثمانية، ولتصبحَ آخرَ حدود الدولة العثمانية داخل الجزيرة العربية، كانت الأحداث في المنطقة في تلك الفترة متسارعةً جدًا وتسيرُ في غير صالحِ الدولة العثمانية، وخوفًا من انفصال الحرمين الشريفين عن العثمانيين، حاول الأتراك الزجَّ بآخر أسلحتهم الجنرال السفّاح فخري باشا، ليفصلَ المدينة عن محيطها العربي ويلحقها بالسلطنة العثمانيةِ ليكون لديها المبرّرُ لحكم ما تبقى من العالم العربي.
كانت المعلوماتُ متواترةً والمخاوفُ حقيقيةً من قرب انطلاق "الثورة العربية الكبرى" على "الاحتلال التركي"، ذلك الاحتلال البغيض الذي هيمن قروناً على مقدّرات الوطن العربي.
الكاتبُ جعل من المدينة المنوّرة محورَ كتابه منذ هجرة النبيّ محمد - صلى الله عليه وسلم - إليها، ومتقاطعةً مع الحقب الإسلامية التاريخيةِ المختلفة، وصولًا إلى تلك الفترة التي عانت فيها ويلاتِ الاحتلال العثمانيّ.
في الفصل الأول قدّم الكاتب عرضًا سريعًا لأصول الأتراك التاريخية وجذور ذلك العرق القادم من أواسط قارة آسيا ليستوطن الجزء الشمالي من العراق والشام، موضحًا أنهم عرفوا طريقهم إلى البلاد العربية مبكراً عبر استقدامهم من حكام الدول الإسلامية والعربية في أزمنة سالفة مختلفة بصفتهم "مماليك" يستخدمون في الحروب والمعارك، قبل أن يتحوّلوا إلى مستوطنين في أراضي الأناضول.
كما تطرق سريعًا إلى تأسيس الدولة السعودية الأولى، التي عاشت المدينة المنورة في ظلها 6 سنوات كاملة من الأمن والطمأنينة، إذ أخذ "آل سعود" على عاتقهم تطبيق المظاهر الإسلامية الإصلاحية، كما عرّج بكثافة على العلاقة بين إسطنبول والدرعية اللتين تناوبتا على حكم المدن المقدسة وبخاصة المدينة المنورة موردًا الفرق بينهما، وفي لفتة صحافية، وصف الساعد جريمة العثمانيين في الدرعية وتدميرها بأنّها أول "سفر برلك" مارسه العثمانيون في تاريخ صراعهم مع العرب حين هدموا الدرعية وهجّروا سكانها وقتلوا أبناءها.
وفي الفصل الثاني، يرصد الكاتب السعودي محمد الساعد، شهادات أهالي المدينة المنوّرة حول "تفاصيل الجريمة وحكايات الألم" التي ارتكبها الجنرال "فخري باشا" وأكثر من ثلاثين ألف جندي من المرتزقة الذين أرسلوا لتنفيذ مخطط التهجير، كان فخري باشا هو القائد الفعلي لجريمة التسفير والترويع في حقّ سكان المدينة المنوّرة وكما وردت على ألسنة أصحابها، ولتنفيذ مخططهم استخدم الأتراك خط "سكة حديد الحجاز" لتسهيل التهجير القسريّ عبر القطار.
وبحسب المصادر التاريخية؛ فإنه لم يبق في المدينة بسبب "سفر برلك" إلا ما بين (80 - 100) شخص من أهلها الذين قُدّرَ عددهم قبل التهجير القسريّ بأكثرَ من أربعين ألفًا، ولم يكتفِ الجنرال فخري باشا بذلك بل أمر باحتكار المواد الغذائية الشحيحة أصلاً بخاصة التمور لصالح الجنود العثمانيين وتحويل المدينة إلى ثُكنة عسكرية بما في ذلك استخدام المسجد النبويّ كمستودع للسلاح، حتى أدّت المجاعة التي شهدتها المدينة، إلى أن يأكل بعض الأهالي والأطفال الذين فقدوا أهاليهم نتيجة للتهجير، القططَ والكلابَ وما تبقى في المزارع والشوارع.
كما أوردَ الكتاب قصصاً حقيقية وشهادات لأدباء ومؤرخين كبار على رأسهم عزيز ضياء ومحمد حسين زيدان، إضافة إلى بعض أسماء العائلات التي هُجّرت إلى أماكن مختلفة بغرض إبعادهم عن المدينة المنوّرة ودفعهم إلى عدم الرجوع إليها مرة أخرى وتم اختيار أقطار بعيدة جداً لتحقيق ذلك الهدف منها تركيا وبلغاريا وألبانيا.
كان من آثار تلك الجريمة أيضًا، قيام الجيش التركي العثماني في المدينة المنورة بنقل جميع الآثار النبوية والهدايا التي أُهديت لحجرة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -على مدار 1300 عام من دون أن تستثني شيئًا، وهي هدايا وآثار لا تقدّر بثمن عبر ما عُرف بـ "قطار الأمانات المقدسة" في العام 1917م، ووصلت الكنوز النبوية المنهوبة إلى عاصمة الدولة العثمانية إسطنبول، وتعرض حاليًا ومنذ سنوات طويلة في متحف "توبكابي"، وهي تضمّ: مصاحف أثرية، ومجوهرات وشمعدانات ذهبية، بالإضافة إلى سيوف ولوحات مرصّعة بالألماس، وما لا يُحصى من المباخر والعلاّقات وغيرها من القطع التي بلغت أكثر من 390 قطعة نفيسة، فضلًا عن بُردة النبيّ الكريم، ورايته (الحمراء)، ومكحلته، ونعله، ورباعيته، وخصلة من شعره.
وفي الفصل الثالث، يستعرض الساعد الأحوال السياسية خلال تلك الفترة في البلاد المجاورة، وحتى داخل الدولة العثمانية نفسها، فقد تحدّث عن مصر إبان تلك الفترة، وإعلان الحماية البريطانية عليها، ما أدى إلى استنفار الأتراك وتحالفهم سرًا مع الألمان في الحرب العالمية الأولى.
كما تطرّق كذلك إلى ممارسات الأتراك التعسّفية والمذابح التي ارتكبوها بحق الأرمن، التي كانت تشبه ممارساتهم مع أهل المدينة، وانتهاء باستعراض نتائج الحرب العالمية الأولى والآثار المدمّرة التي خلّفتها على مستوى دول العالم.
استخدم الساعد في كتابه المنهج التاريخيّ التحليليّ، عبرَ رصد القصص والوقائع من مصادر مختلفة، ثم تحقيقها وجمع الأدلة حولها، ومن ثم سردها وتقديمها للقارئ العربيّ بعامة والسعودي بخاصة.
كما تطرّق بالنقد والتحليل والاستنباط إلى فكرتين مهمتين هما "مفهوم الخلافة ومعاونة الإنجليز للثورة العربية الكبرى"، وقد وضع اتفاق الأتراك مع الألمان في "الحرب العالمية الأولى" مقابل محاولة الإنجليز دعم الثورة العربية أو مساعدتها، متسائلًا: هل تحالف الأتراك العثمانيين مع الألمان حلالٌ عليهم... والتحالف العربيّ مع الإنجليز حرام.