ذكرى طفولية تكبر مع الأيام ويزداد التمسك بها، بطلها هو ذلك الرجل صاحب النظارة السوداء الذي يسير بطبلته وجلبابه ليعلن أن صنعته "مسحراتي في البلد جوال"، ثم يدعو النائمين بصوته العذب والقريب للغاية، مثل صوت الآباء الذين يوقظون أطفالهم إلى أن يوحّدوا "الدايم، رمضاااان كريم".
هكذا يخلق سيد مكاوي بكلمات فؤاد حداد الرابط الأول مع رمضان بالنسبة إلى الصغار، إذ يشبّون وتصبح فقرة السحور بصوته الآتي من الإذاعات والشاشات طقساً أساسياً محبباً لا يفرّق بين الأجيال، فالكل يعرف جيداً أن رمضان هلّ حينما نسمع صوت الشيخ سيد في الليلة الأخيرة من شعبان.
رمضان في بيت سيد مكاوي
تمرّ هذه الأيام ذكرى وفاة الملحن والمطرب المسحراتي المصري الأشهر الموسيقار سيد مكاوي (8 مايو/ أيار 1928 - 21 أبريل/ نيسان 1997)، فتتكاتف الصدف لتصنع مناسبة متعددة الأوجه للاحتفال بموهبة حاضرة ومتّقدة وبريقها يلمع على الرغم من رحيل صاحبها منذ ربع قرن تقريباً.
من إذاً يمكنه أن يسرد لمحات غير معتادة عن حياة الفنان الذي لم يحدّ موهبته سقف؟ إنها الفتاة المخلصة وابنة أبيها الكاتبة الصحافية أميرة سيد مكاوي، التي استعادت مع "اندبندنت عربية" ذكرياتها مع الأب الاستثنائي، في حين أن سيرته ولفتاته لم تغِب يوماً عنها، لكنها فرصة لأن تتشاركها بالتزامن مع ذكرى وفاته، فكيف كانت ترى الصبية المحبة "مسحراتي الوطن"، وهو واحد من ألقاب كثيرة منحها الجمهور للموسيقار سيد مكاوي عن طيب خاطر؟
تبدأ الكاتبة أميرة مكاوي بالحديث عن طقوس رمضان التي حافظ عليها أبوها، ابن منطقة السيدة زينب في القاهرة، حيث يبدو أنه كان يحضر هذا الحي المصري تماماً، الذي يحوي كل مظاهر احتفالات رمضان المصرية بشكل نموذجي إلى منزلهم في منطقة المهندسين. تقول "كنا نجتمع على السفرة كل رمضان، فهذا أمر لا جدال فيه، حتى بعد زواج شقيقتي الكبرى إيناس أيضاً كانت تحرص أن تأتي مع أسرتها في رمضان، ومنذ طفولتنا وإلى أن كبرنا، كان يجب أن يجلب لنا فوانيس تقليدية تضاء بالشموع على الرغم من انتشار نظيرتها الكهربائية حينها، وطبعاً كان شيئاً أساسياً أن تكون المخللات آتية من السيدة زينب بشكلها المعروف في الكيس الشفاف، والراديو بالطبع صوته لا يتوقف، نسمع الابتهالات ثم الأذان، وحتى موعد السحور نستيقظ على صوت المسحراتي من الراديو، فالمسحراتي كان مرادفاً رئيساً لرمضان في بيتنا".
يومياته في المكتب
أميرة مكاوي تتابع كيف كان والدها يحب جمهوره، ويقدّر كثيراً اهتمامهم بالتواصل معه حتى لو من وراء زجاج السيارة، تضيف: "كنت أرافقه إلى مشاويره منذ أن كنت في الـ18 من عمري، فرافقته منذ أوائل التسعينيات إلى المكتب بشكل دائم، ولم يكُن يكلّ من الإشارة بيديه مردداً: (أهلاً حبيبي)، مجيباً بودّ وإشراق عن كل عبارات السلام والمحبة التي تأتيه في الشارع، حيث كان يسعد بفكرة قربه من الناس، باعتبار أن جمهور الشارع هو رأس مال الفنان الحقيقي، وأن الفنان صنيعتهم بشكل أو بآخر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا تنسى أميرة أن والدها كان يترك يدها حينما تهمّ بإيصاله إلى داخل مكتبه فور سماع صوت "عم إدريس" الحارس، ويفضل أن يسير حتى باب المكتب معه، وفسر لها الأمر لاحقاً بأن العم إدريس "يشعر بسعادة وغبطة حينما يقوم بهذا الدور، وهو لا يريد أن يحرمه أبداً منه".
وعلى ذكر المكتب، تحكي نجلة المسحراتي "أبي كان مثل غالبية أبناء جيله، لديه فصل تام بين أمور البيت والعمل، حيث يقابل الفنانين في المكتب، وينهي كل الأمور هناك، ولكن البيت لا يدخله سوى قلة فقط من هؤلاء المشاهير، وهم المقربون منه وبينهم مثلاً صلاح جاهين وفؤاد حداد ورحمي، مع حفظ الألقاب، كما كانت لديه جلسات موسيقية مع الموسيقار عمار الشريعي أيضاً، فيغنيان سوياً لساعات ومعهما العود بالطبع".
وكان لصاحب الليلة الكبيرة ليلته أيضاً، إذ تتذكر أميرة سيد مكاوي سهرة عيد ميلاده في الثامن من مايو، واصفة الأمر بأنه مثل احتفال الموالد بالنسبة إليها، "نبدأ الاحتفال منذ الثامنة مساءً ولا ينتهي إلا في الثامنة صباحاً، كنا نسهر لنتابع كل ما يجري بحضور عدد كبير من النجوم، بينهم مثلاً عادل إمام وأحمد زكي وسعيد صالح وأمين الهنيدي وفريد شوقي وأحمد عدوية ونيللي ونادية لطفي ومحمود السعدني ومحمود عبد العزيز وفاروق الفيشاوي".
تختتم أميرة مكاوي حديثها بتأكيد أنها تحب كل أعمال والدها سواء بصوته أو بأصوات كبار نجوم الطرب، مثل أم كلثوم وشادية ووردة ونجاة وصباح، لكن مفضلاتها الشخصية قد تكون غير رائجة كثيراً، بينها أغنيته "إنت واحشني" ولليلى مراد "حكايتنا إحنا الاتنين"، و"اسأل مرة عليّ" لعبد المطلب، و"قلبي سعيد" لوردة، لكن القمة بالنسبة إليها حينما كانت تسمع أباها الشيخ سيد مكاوي وهو يغني لشيخ وسيد آخر هو الموسيقار سيد درويش.