"وداعاً للأوراق، وداعاً للطوابع" هذا ليس شعاراً جديداً لإطلاق "الحكومة الرقمية" في لبنان، وإنما تصويراً لواقع الإدارات العامة في البلاد، ومعاناة المواطن اليومية. إذ انعكست الأزمة الاقتصادية وسياسة التقشف جلياً، فلا إيصالات تُعطى، ولا مستندات تُنجَز.
وهذا ما تبيّن خلال إنجاز معاملة "دفع الرسوم الشهرية لإدارة الهاتف"، حين تفاجأ المواطن وبعد طول انتظار في الصف، بأنه لا يمكن الحصول على إيصال، وأن الإدارة تكتفي برقم هاتفه لإرسال رسالة نصية قصيرة، تثبت أنه دفع مستحقاته. ولدى إصراره على الحصول على وصل أو ورقة أو مستند، حينها تم إبلاغه بإمكانية الدفع من خلال شركة تحويل الأموال التي تأخذ رسماً إضافياً بقيمة ألفي ليرة لبنانية. والمفاجاة الأكبر ظهرت بعد قليل عندما منحت زبونها مستنداً ورقياً يُثبت معاملة الدفع.
رحلة البحث عن طابع
منذ عام 2019، يشهد لبنان بصورة متقطعة أزمة فقدان الطوابع المالية. ولو كانت هذه الطوابع مجرد تذكارات لهواة جمعها فلا ضير، أما حين تعد من ضروريات إنجاز أكثرية المعاملات الرسمية منذ الولادة إلى الوفاة مروراً بمعاملات الزواج والطلاق والمحاكم وتأسيس الأعمال والشركات، وغير ذلك، فهنا تكمن المشكلة. تقدم المواطنة سوسن (40 سنة) شهادتها من أجل تجديد عقد إيجار مسكنها العائلي، وكانت بحاجة إلى طوابع بقيمة 63 ألف ليرة لبنانية من أجل لصقها على المستند الورقي. وكان هناك إصرار من قبل الجهة المؤجرة لأن يؤمنها المستأجر. قضت أياماً وهي تجول على مكاتب المخاتير، وأماكن بيعها، كما احتاجت إلى مساعدة من قبل أصدقاء لها من أجل إتمام العدد، فقد قام كل واحد من المجموعة بتأمين عدد محدد من الطوابع، لأن المخاتير والمكتبات لا تبيع بقيمة تتعدى الخمسة آلاف ليرة لبنانية. وتشير السيدة إلى أنها اضطرت لدفع ضعف قيمتها الحقيقية.
كذلك يشكو مواطن لبناني آخر من شحها واحتكارها لدى قلة قليلة من الناس. وفي هذا الشأن، يؤكد رئيس رابطة مخاتير عكار زاهر كسار، أن "الناس تُذل بسبب انقطاع الطوابع، وكل المعاملات تبقى متوقفة إلى حين الحصول عليها". وأدى فقدان الطوابع إلى عرقلة معاملات المواطنين سواء على صعيد الاستشفاء في ظل جائحة كورونا، أو إتمام إخراجات القيد الإفرادية لطلاب الشهادات الرسمية بعد أن قررت وزارة التربية اللبنانية إجراءها في فصل الصيف المقبل، مؤكداً أن "المواطن تحت وطأتي الوقت والحاجة، ولا يمكنه تأجيل المعاملات الرسمية أو الاستغناء عنها".
ويقدم الكسّار العسكر نموذجاً وشريحة عريضة تتضرر من انقطاع الطوابع، فهو مطالب عند حدوث أي ولادة بإجراء خمس نسخ عن وثائق الولادة، وكذلك ثلاث نسخ عن إخراج القيد العائلي، ومثلها لإخراج القيد الإفرادي، وذلك من أجل الاستفادة من تعويض الطبابة العسكرية.
ويزداد العبء على المواطن في ظل غلاء الورق والحبر، وانقطاعمها في كثير من الأحيان، وأصبحت كلفة الصورة ألف ليرة عن كل صفحة بعد أن كانت 250 ليرة لبنانية، لتفوق كلفة المعاملة الـ100 ألف ليرة لبنانية يلتزم العسكري بدفعها.
ويؤكد الكسّار أن هذه المشكلة باقية على الرغم من مكننة بعض دوائر النفوس، معللاً أن "هناك حاجة مستمرة لطباعة الأوراق". ووفق الصيغة المستجدة فقد "حلت الطباعة الإلكترونية مكان الكتابة باليد، إلا أنه لم نصل إلى مستوى الاستغناء النهائي عن المعاملات الورقية".
سوق الطوابع السوداء
وتمددت السوق السوداء لتصل إلى عالم الطوابع المالية، ويلفت الكسّار إلى أن المختار والمواطن يضطران لدفع أربعة أضعاف ثمن الطابع للحصول عليه من مكاتب محددة، لذا نلمس في بعض الأحيان مماطلة من قبل المختار لإنجاز المعاملة إن أمكن على ضوء الأولويات.
ويقايض أصحاب المكاتب الزبون، إما أن يعطيهم ضعف ثمنه أو حرمانه منه. ويعتبر الكسّار أن "حال الطوابع هي من حال هذا البلد".
يجيب الكسّار عن سؤال حول طبيعة السوق السوداء، فيحدد معالمها بأنهم من "أصحاب المكاتب الذين يشترون الطوابع ويخزنونها لديهم، ولا يبيعونها إلا بصورة مشروطة ولأشخاص محددين. يحصل هؤلاء على الطوابع إما بطريقة ملتوية، أو أنهم سعوا للحصول عليها بفترات سابقة، ويقودهم التوقع بانقطاعها إلى حجبها عن الزبائن، إلى حين انقطاعها عن السوق الرسمية. وعليه، أصبحت سوق الطوابع شبيهة بالأسواق الموازية للوقود والدواء والغذاء من أجل استغلال حاجة الناس إليها لاحقاً، وبيعها بأسعار مرتفعة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحل المؤقت حاضر
في عام 2019 بدأت أزمة الطوابع، إلا أنه خلال العام الماضي 2020، شهد لبنان انقطاعاً تاماً للطوابع المالية، ووصلت أسعارها إلى مستويات قياسية.
هذه الأزمة استدعت تدخل الجيش الذي أعرب عن استعداده لطباعة الطوابع المالية في مطبعة مديرية الشؤون الجغرافية. وقد جرى تعديل المعايير العالمية الخاصة بالطوابع لتتوافق مع المعدات والشروط الفنية المتوافرة.
في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) 2020، طرحت وزارة المالية ثلاثة ملايين طابع في السوق المحلية من فئة الألف ليرة، على أن يستمر تزويد السوق بكميات إضافية على مراحل متعاقبة. وعلى الرغم من محاولات تأمين الطوابع، فإن محدوديتها وانقطاعها بصورة مستمرة يفتح الأبواب أمام الاحتكار والاستغلال.
الحاجة طارئة
وقد مسّت أزمة الطوابع المالية والأوراق على حد كبير الإجراءات القضائية والمحاكم، ويتحدث محامون، أن بعض القرارات القضائية أصبحت تُطبع على الوجهين بسبب شح الأوراق. كما أن الطوابع من فئات 250، 500، والألف غابت بالكامل. لذلك اضطر المحامون إلى لصق طابع الألفي ليرة لأنه المتوافر، من هنا أصبحت كلفة المعاملة مُضاعفة. في حين يعتبر البعض بأن "الطابع الأصلي أصبح قطعة أنتيك يجب الحفاظ عليها".
بدوره، يؤكد المحامي غسان لاكدار أنه "يجب إتمام المعاملات والمضي في سير الدعاوى، لذلك فإن المحامي يُضطر لشراء الطوابع المتوافرة، وإن كانت أغلى من أجل سير أعماله"، ملاحظاً أن "الطوابع الموجود في السوق نوعيتها رديئة مقارنة مع تلك الأصلية التي تنطبق عليها الشروط الشكلية والفنية العالية". ويعتقد أن هناك وجهاً إيجابياً للأزمة الحالية، فقد يدفع انقطاع الطوابع وشح الأوراق في الإدارات الرسمية، نحو التعجيل في إقامة الحكومة الإلكترونية، لأنها ضرورة في ظل اتجاه العالم نحو الرقمنة وإنجاز المعاملات من بُعد دون حاجة إلى الروتين الإداري الذي يهدر الوقت ويشجع الفساد.
في المحصلة، يغض المواطنون النظر عن نوعية الطوابع، نظراً للحاجة لإنجاز المعاملات التي تقع ضمن قائمة الأولويات. وفي كافة الأحوال، فإن الوضع اللبناني يتدهور بسرعة كبيرة، وكل يوم يحمل معه مؤشرات إضافية للانهيار. ذلك أن تراجع خدمات الإدارات الحكومية لا يتوقف عند النقص في القرطاسية والأدوات المكتبية، وإنما يتجاوزه إلى ضعف الإنتاجية.