قد لا يسترعي انتباهنا مدى العلاقة الوطيدة التي تربطنا بالأقفال، فالقفل بكل أشكاله يرافقنا في كل صغيرة وكبيرة يومياً، ربما نفتح قفل هاتفنا المحمول مئات المرات، ومفتاحه كلمة سر، أو كبسة على زر، فالقفل والمفتاح واحد، فلا يكون أحدهما من دون الآخر.
الأقفال وتطور المجتمعات
نستخدم مئات الأقفال في النهار الواحد، بعضها ما زال بدائياً، وبعضها الآخر بات متطوراً جداً، فبدءاً من قفل البيت، إلى باب المصعد، إلى قفل باب السيارة، وقفل محركها، إلى البطاقة الإلكترونية للصراف الآلي، ومنها إلى باب المكتب، إلى قفل الخزانة، وقفل الإنارة في الغرف، وغيرها الكثير، حتى أزرار القميص وسحاب الجاكيت، وربط الساعة باليد، هي نوع من الأقفال.
أقفال بتنا نستخدمها سهواً، وبلا انتباه، لكنها رافقتنا منذ عملنا على تحقيق الأمان بإقفال المغارات بحجر ضخم أو بأغصان الأشجار، إلى اليوم الذي باتت فيه خصوصيتنا الفردية أمراً ذاتياً "مقدساً" لا يمكن للآخرين الولوج إليه إلا بإرادتنا وموافقتنا، لذا فإن القفل والمفتاح هما رديفا الأمان والخصوصية لكل فرد منا.
يمكن إسقاط فكرة القفل والمفتاح على أمور معنوية غير مادية أيضاً، فنقول، مفتاح القلب، وقفل الروح، وقفل المشكلات، ومفاتيحها، بل قد تكون لكل العلاقات البشرية "أقفالها ومفاتيحها"، تتبدل وتتغير بحسب الحاجة إلى الآخرين ومدى القرب والبعد منهم، بل وأمعن علماء النفس والاجتماع في تفسير القفل وعلاقاته بالنفس البشرية وبالعلاقات الاجتماعية بين البشر.
رافقت الأقفال تطورنا منذ قديم الزمان، فتطورت مع الملكية الخاصة، ثم مع ازدياد الحاجات التي نملكها، ثم مع الاستقلال عن الجماعة في بيت أو أرض، ومن بعدها، مع تطور التبادلات التجارية وظهور العملات، وأمعنا في تطويرها وتشديد مناعتها كلما زادت حاجتنا إلى إخفاء أسرارنا وممتلكاتنا، ومنع الدخول إلى غرف سرية في المصارف والشركات والمؤسسات الكبرى التي تضم أسراراً صناعية، إلى أن ظهرت الأقفال الكهربائية، ومن ثم الإلكترونية، ومن بعدها الأقفال التي تفتح ببصمة الأصبع أو العين.
مباهاة على عدد الأقفال
في حضارة الآشوريين والصينيين والمصريين القدماء، تطورت صناعة الأقفال والمفاتيح من حيث الشكل، كتزيينها والرسم عليها، ومحاولة تصغيرها قدر الإمكان بعد أن كانت ضخمة لقرون، وكان عدد المفاتيح التي يحملها الشخص تدل على مكانته، فالمفاتيح الكثيرة تعني أقفالاً كثيرة، بالتالي ملكية واسعة، وكان الأثرياء والمقدمون في المجتمع يتباهون بحمل مفاتيحهم وإبرازها أمام الناس، وبعضهم كان يسير خلفه عدد من العبيد يحملون مفاتيحه، كما نقش الرومان واليونانيون، ومن قبلهم المصريون والآشوريون، الأقفال بنقوش وزخرفات ورسومات تمويهية، فجعلوها على شكل حيوانات وأزهار وطيور، ودلت غزارة النقش وطبيعته وتعقيداته على مكانة صاحبها، بل إن بعض المفاتيح كانت توشى بالأحجار الكريمة والذهب أو الفضة للتباهي بها كما لو أنها قلائد حول الأعناق وفوق الصدور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما أشكال الاحترام الأكبر فهي في تسليم شخص مفتاح مدينة ما، وهي عادة ما زالت رائجة حتى يومنا هذا، حين تقدم مدينة ما مفتاحها لشخص معروف بعطاءاته أو إنجازاته، وتعود هذه العادة إلى الزمن الذي كانت فيه المدن والحواضر تقفل أبوابها أمام القادمين فلا تستقبل الغرباء إلا بشهادات وأوراق قانونية، صادرة عن السلطة الرسمية، فكان مفتاح المدينة يقدم للتجار المعروفين أو للشخصيات الاعتبارية وكبار الزوار، كنوع من تأكيد الثقة بهم وتشديد الروابط معهم.
توثيق تاريخي
بحسب علوم الأركيولوجيا والتنقيب، فإن أول قفل يعود إلى ما قبل أربعة آلاف عام، عثر عليه في أطلال قصر خور ساباد في مدينة نينوى، ويقال إنه تم تطويره من قبل المصريين قبل 2000 عام، وبسبب استخدامه على نطاق واسع في مصر في الفترة ذاتها بات يعرف بالقفل المصري.
يعرف هذا النوع من الأقفال بقفل "الوتد – الريشة"، ومنه تطور نظام القفل الحديث، وهو يتكون من مزلاج خشبي كبير، تتخلله ثقوب عدة على سطحه الخارجي، ثم قطعة مثبتة على الباب مصممة كي تنزلق بفعل الجاذبية الأرضية فتثبت المزلاج وتمنعه من التحرك، بالتالي لا يمكن فتح الباب. أما المفتاح، فكان قطعة خشبية متطاولة ذات أوتاد بأطوال مختلفة في وضع عمودي تطابق الثقوب، ولقد عثر على نماذج مشابهة لهذا القفل في حضارات قديمة عدة في شمال أوروبا وفي الهند والصين واليابان.
وتسبر حزامة حبايب (روائية وقاصة وكاتبة مقالات ومترجمة وشاعرة فلسطينية) في تقرير لها حول الأقفال، تقنية الأقفال الأكثر بدائية التي اعتمدها اليونانيون، فكان يتم تحريك المزلاج بواسطة مفتاح من الحديد على هيئة منجل بمقبض خشبي، وكان يمرر المفتاح المنجلي الشكل في ثقب في الباب ثم يدار، بحيث يشتبك رأس المنجل بالمزلاج المثبت داخل الباب ويرفعه أو يسحبه إلى الخلف، ثم جاء دور الرومان الذين طوروا أول أقفال معدنية مصنوعة من الحديد الصلب، ولقد جمع الرومان بين خصائص النموذجين المصري واليوناني في صنع الأقفال، مطورين تقنية أقفال ميكانيكية مبتكرة تم تثبيتها داخل الباب، بحيث تعمل بمفتاح من الخارج عبر ثقب مخصص له.
بعض المراجع تشير إلى أن الصين هي الموطن الذي شهد ولادة الأقفال المحمولة، في حين عمل الرومان على ترويجها وتوسيع قاعدة استخداماتها، إذ راجت هذه الأقفال تحديداً وسط التجار والرحالة، ممن كانوا يسافرون بالصناديق التي تحمل بضائعهم في طرق التجارة البرية والبحرية.
الأقفال الحديثة وما بعد الحديثة
في العصر الحديث تحققت القفزة النوعية على يد لينوس ييل الذي سميت على اسمه ماركة المفاتيح المشهورة عالمياً حتى اليوم، كان ييل قد طور قفل "الوتد - الريشة" في عام 1865، مستنداً على فكرة القفل الآشوري، أو المصري القديم، وهو قفل ذو مفتاح صغير مسطح، بحافة مسننة، وبات هذا القفل سهل التصنيع ينتج بكميات تجارية، ليصبح الأكثر استخداماً للأبواب في العالم إلى هذه اللحظة.
ومع اتخاذ التقنية منحنى تصاعدياً في القرن الـ20، ومنذ ظهور آلات الثورة الصناعية، شهدت الأقفال تحسينات كبيرة وباتت أكثر دقة وأماناً، ثم تم تطوير الأقفال الإلكترونية، التي تستخدم مفتاحاً لتشغيل دائرة كهربائية، كمفاتيح السيارات والطائرات، وهناك الأقفال التوافقية التي تستخدم في خزائن المصارف والمؤسسات المالية، إلى أن وصلنا إلى الأقفال التي تفتح باللمس، والتي باتت موجودة على شاشات تدخل في تفاصيل حياتنا، من السوبرماركت إلى الهاتف المحمول والكمبيوتر والسيارة وأبواب المنازل.
"ستارت" والأقفال الإلكترونية
بعد ييل تمكن وولتر شلاج من اختراع قفل "تامبلر" ذي الشكل الأسطواني الذي تقدم على قفل "ييل" في تقنية زر الدفع، وفي عام 1975 أصبح تور سورنيز أول شخص يصمم كارت الحماية الإلكتروني، ما أدى إلى فكرة الأقفال البرمجية لاحقاً.
في بداية القرن الـ21، ظهر عدد لا يحصى من أشكال الحماية الإلكترونية التي تستخدم طرق توثيق مختلفة ككلمات المرور، وفحص البصمات، والتعرف على الوجه، أو العين، أو باستخدام الأشعة تحت الحمراء.
أما القفل الذي بات يعرفه كل الناس في كل أنحاء العالم، فهو زر بدء التشغيل "ستارت" المؤلف من شكل دائرة، وهي تدل على الرقم صفر، وفي داخلها خط عمودي، وهو الرقم واحد، هذا الشكل هو من أصول لغة الكمبيوتر المؤلفة من الرقمين صفر وواحد، وهذا الشكل للقفل بات موجوداً على كل ما يجب فتحه على آلة كهربائية أو إلكترونية، وقد حل منذ زمن بعيد محل قفل "فتح – إغلاق"، الذي ساد زمناً طويلاً، وقد ظهر هذا الرمز لأول مرة عام 1973 في كتاب يوحد الإشارات التي تستخدم في الأجهزة الإلكترونية لتصبح لغة عالمية يفهمها كل شعوب العالم.