من بين الأسباب التي جعلتني أتخصص في الاقتصاد، كان الافتتان بالآلة المعقدة المتمثلة في اقتصادنا، هو النظام الذي يتألف من الأجزاء المتحركة من عملنا، والبضائع والخدمات التي نشتريها، والأعمال التي ننهض بها لمصلحة بعضنا بعضاً، سواء أكانت مدفوعة أو غير مدفوعة. وعلى رغم أننا نرى هذه الأجزاء، فإن ما نميل إلى غض الطرف عنه هو الوقود الذي يحافظ على تشغيل هذه الآلة. ففي اقتصاد رأسمالي، يتمثّل ذلك الوقود بالمال. وسيحدد الاتجاه الذي نوجه إليه هذا الوقود ما يفعله اقتصادنا. وبالتالي، فمن الأهمية بمكان أن نُبعِده [المال] عن الوقود الأحفوري، ونوجه المال باتجاه الصناعات والشركات المستدامة في المستقبل.
مما يثير الغضب أن النظام المالي، على رغم كل الأجواء المحتدمة بشأن حالة الطوارئ المناخية في السنوات الأخيرة، لا يزال يدعم صناعات الوقود الأحفوري نفسها التي تدمر المناخ العالمي ويشجعها. لكن، لقد بدأ ذلك في التغيّر الآن، في ظل قدر أعظم من الشفافية والتغيرات التي طرأت على القواعد التي تعمل المصارف بموجبها.
على مستوى الخدمات المصرفية والمالية بالتجزئة، يحق لنا جميعاً أن نعرف ماذا تفعل المصارف بأموالنا. وقد تبدو هذه الجملة واضحة، لكني فوجئت إذ وجدت أن الأمر مثير للجدال، بل شكّل مبدأ اضطررت إلى النضال من أجله كعضوة في البرلمان الأوروبي. وحين وجد الناس لحم الأحصنة بدلاً من لحم الأبقار في اللازانيا، علت صيحات الاحتجاج، لكن حين يحدث ما يعادل ذلك في القطاع المالي، لا يملك العملاء مجرد الحق في المعرفة. وجاءت معركتنا ناجحة إلى حد كبير، إذ بدأ في الشهر الماضي العمل بنظام الإفصاح الإلزامي الخاص بالاتحاد الأوروبي المعروف باسم "تنظيم الإفصاح عن التمويل المستدام".
وفي التفاصيل، يطلب ذلك التنظيم من الشركات الاستثمارية، وصناديق المعاشات التقاعدية، وشركات التأمين، والمصارف التي تقدم خدمات الاستثمار، [يطلب] الكشف عن كيفية أخذها الآثار البيئية أو الاجتماعية لاستثماراتها في الاعتبار. ومع فرض بعض القيود التي أُرغِمنا على التنازل عنها أثناء المفاوضات، يطلب التنظيم من الأطراف الفاعلة كلها في السوق المالية (أي المؤسسات التي يتجاوز عدد موظفيهم 500 شخص) جمع المعلومات التفصيلية حول الآثار المترتبة على استثماراتهم، وجعلها علنية. وكذلك باتت كل شركة تسوق منتجاتها المالية باعتبارها "مستدامة"، تواجه متطلبات أكثر صرامة في ما يتصل بالكشف عن منتجاتها، بهدف منع غسل الأموال في السوق.
ولطالما تحدى أنصار "الحزب الأخضر في إنجلترا وويلز" الإجماع السياسي على وجوب أن تكون المصارف المركزية محايدة سياسياً، رافضين قبول ممارسة السلطة غير العادية المتمثلة في توليد المال سراً، لمصلحة أقلية ضئيلة، وفي الغالب على حساب كوكب الأرض. ولقد أيدنا سياسة معروفة باسم "التوجيه الائتماني"، بمعنى أن القدرة على توليد المال، وبالتالي توجيه النشاط الاقتصادي، يجب أن تُستخدَم لضمان تعجيلنا الانتقال نحو الاستدامة. وربما كان بوسع "بنك إنجلترا" أن يحدد نسبة متراجعة من الإقراض المصرفي إلى القطاعات الأحفورية، ويضع حداً أدنى في معدلات إقراض القطاعات المستدامة، مثلاً.
وفي ميزانية هذا العام، برزت علامات مشجعة تؤكد أننا ربما نتحرك أخيراً في هذا الاتجاه، وأن "بنك إنجلترا" قد يستخدم عملتنا الوطنية في دعم التحول إلى الاستدامة بدلاً من تقويضه. وفي أعقاب حملة طويلة قادتها مجموعة "المال الإيجابي" وغيرها، غيّر وزير المال تفويض "بنك إنجلترا"، فبات لزاماً عليه الآن أن يوائم إقراضه مع تحقيق هدف "الصفر الصافي" [في التلوث] الذي حددته الحكومة من أجل "التعبير عن أهمية الاستدامة البيئية والانتقال إلى الصفر الصافي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالتالي، يعني ذلك إنهاء شراء "بنك إنجلترا" سندات من شركات الوقود الأحفوري، وبالتالي استخدام الأموال المولدة بواسطة الجمهور، في تسريع أزمة المناخ. ولا بد من أن يعني هذا أيضاً شيئاً كنا ندعو إليه منذ فترة طويلة، يتمثّلفي إعادة تقييم قيمة الأصول التي تستطيع المصارف أن تقدم القروض في مقابلها.
إذ تعني سياسة "الصفر الصافي" [تصفير الانبعاثات] على صعيد الانبعاثات الكربونية، أننا نعمل لإزالة الوقود الأحفوري من اقتصادنا، فتكون قيمة أصول الشركات الأحفورية محدودة ومتدنية. ولا بد من مطالبة المصارف المركزية والتجارية بإجراء "اختبارات إجهاد الكربون" بهدف تحديد مكان وجود هذه الأصول، وإحلال أصول ذات قيمة في مستقبل سياستنا في "الصفر الصافي"، بديلاً منها.
وعلى الرغم من أن التغيير لم يذهب إلى الحد الذي قد تذهب إليه سياسة توجيه الائتمان، إلا أنها تعني أن "بنك إنجلترا" يجب أن ينظم الأولويات في استخدام سلطته في توليد الأموال، كي يستثمر في البنية التحتية المستدامة والمشاريع الانتقالية كبرامج إعادة تجهيز المساكن الرئيسة، ربما من خلال تنفيذ مقترح إنشاء "المصرف الوطني للبنية التحتية". وإضافة إلى ذلك، يجب أن تحفز الآن برامج الإقراض الرخيص كـ"برنامج التمويل المحدود" للتعامل مع الشركات المستدامة وتلك التي تتمتع بمستقبل مضمون.
ومن الجدير بنا أن نخلص إلى أن هذه مجرد بداية القصة بالنسبة إلى خبراء الاقتصاد الأخضر، وأن المال في نهاية المطاف يجب ألا يكون وقوداً بقدر كونه مادة لتزييت نظام متوازن ومتناغم مع الطبيعة، ولا يكون مصمماً كي ينمو بشكل مدمر.
وفي إطار مقاييس الاقتصاد الرأسمالي العالمي، يُعَد المال الأداة الأكثر قوة، بمعنى إنه الأداة التي يجب استخدامها في تحقيق الصالح الاجتماعي ومعالجة المناخ وحالات الطوارئ البيئية التي أحدثها سوء استخدامها [البيئة] على مدار قرون عدّة. وبوسعنا أن نرى علامات مشجعة تدل على أننا نتحرك أخيراً في ذلك الاتجاه.
© The Independent