عرضنا في الحلقة السابقة المرحلة الرئيسة الثانية في تاريخ المعتزلة، وكيف أن الأفكار تبلورت ونضجت أكثر في تحديد المقولات بنفي الصفات الإلهية ونفي القدر وخلق القرآن، والمفهوم العقلي تجاه العلاقة بين الله والإنسان، وما يتعلق بحرية الاختيار والإرادة والقدرة، ومن أبرز هذه المرحلة هم معبد الجُهني والجُعد بن درهم وغيلان الدمشقي وجهم بن صفوان.
تأسيس المذهب
كان واصل بن عطا (80-131 هـ - 699-748 م) في حلقة الحسن البصري الدراسية، إلا أنه انفصل عن أستاذه بسبب خلاف فقهي حول رأيه في مرتكب الكبيرة، فإذا كان الحُكم على صاحب الكبيرة بأنه "مؤمن فاسق"، فإن واصل عدّه لا مؤمناً ولا كافراً، بل هو في "منزلة بين منزلتين". ومن هنا، أنشأ واصل في نفس جامع البصرة حلقة جديدة يشرح فيها أفكاره وآراءه الشرعية والكلامية، وقال الحسن، "أعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة"، كما ذكر لنا الشهرستاني في "الملل والنحل"، إلا أن ما قام به واصل كان بمثابة التأسيس الرسمي لمذهب الاعتزال.
وعلى الرغم من أن واصل بدأ منهجه بطرح فكري متواضع الأبعاد، لكنه أبقى على المقولات الرئيسة في الفكر المعتزلي، كما أن منهجه قد تطور على يد بعض المعتزليين ليشكّل مجموعة من الأفكار والعقائد التي لها أصولها في المذهب نفسه، خصوصاً تلك الأصول أو المبادئ الخمس الرئيسة التي يتفقون عليها جميعاً، وهي: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولتوضيح ذلك سنتناولها بنوع من الإيجاز
أولاً: التوحيد، إن فلسفة التوحيد في مذهب المعتزلة تقوم على إثبات وحدانية الله المطلقة، فالله: واحد ليس كمثله شيء، فهو لا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسه، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة... إلخ. بيد أن هذا الإثبات يلازمه أيضاً نفي المثل عن الله، وكذلك أفكار أخرى ترتكز عليها مفاهيم الاعتزال تجاه قضية التوحيد، وهي:
(أ) "نفي الصفات" عن الذات الإلهية، لا سيما أن هذه الفكرة التي تناولها واصل بن عطاء بشيء من التمهيد البسيط، قد أخذت أبعاداً فلسفية عند أبو هذيل العلاف (توفي 227 هـ - 836 م)، وإبراهيم النظّام (185-231 هـ - 791- 843 م)، وأبو هشام الجبائي (275-321 هـ - 888-933 م)، وغيرهم من شيوخ الاعتزال، فالأول، يقول، "إن الله قادر وقدرته هو هي"، وإنه "كريم وكرمه هو هو"، وغيرها من الأقوال التي يوحد بها العلاف بين الصفات والذات الإلهية، أما الثاني، فيؤكد أن صفة الذات هي جزء من الذات، فلا يوجد فصل في ما بينهما وإنما نفي للصفة المضادة لها، فقولنا إن الله قادر تعني نفي الضعف عنه، وإنه كريم تعني نفي البخل عنه، وهكذا. أما الثالث، فيرى أن الصفات الإلهية ما هي إلا أحوال الذات الإلهية ليس غير، إذ إن "الله هو عالم لذاته بمعنى ذو حالة هي صفة المعلومية".
وهذا هو مفهوم التنزيه الإلهي عندهم، إذ إن الله مُنزّه كلياً عما تتصف به جميع مخلوقاته، فالإنسان يصبح عليماً بعد تعلمه للعلم، إلا أن هذه الصفة ليست ثبوتية قديمة بحق الله، لأن إثبات قِدمها يعني إثبات لقديم غير الله، وهذا مناقض لوحدانية الله، إذ "لو شاركته الصفات في القِدم لشاركته في الألوهية" أيضاً، وعلى هذا الأساس ترى المعتزلة ينفون الصفات عن الذات الإلهية.
(ب) "خلق القرآن"، ينص المعتزليون على أن القرآن كائن مخلوق كبقية الكائنات التي خلقها الله، وهذا يعني، أن القرآن ليس كلام الله المُنزّل كما هو مفهوم ومعلوم في بنية العقيدة الإسلامية، والسبب بحسب تصورهم، أن الكلام صفة من صفات المخلوق، وإذا كان الله متكلماً، فإن الكلام كذلك يُعد قديماً، وهذا يتعارض مع أزلية الله في التوحيد، وبما أن المعتزلة قد وحدّوا بين الذات الإلهية وصفاتها، لذا فإن فكرة خلق القرآن جعلتهم أن يتجهوا إلى مسألة تأويل النصوص القرآنية ليتناسب مع طروحاتهم، سواء في هذه القضية تحديداً، أو القضايا الأخرى المتعلقة بنفي الصفات ونفي القدر، كما قادهم هذا الموقف إلى النظر في مسألة رواية الحديث النبوي، والتشدد في قبول الكثير من الأحاديث، بحجة الصعوبة في وصول رواية سليمة عن النبي، خصوصاً أن هناك أنواعاً من الأسانيد للحديث منها: الصحيح والحسن والضعيف والموضوع. وفي هذا الأمر، إنما أراد المعتزلة نصرة العقل على النقل، فالعقل يتقدم على الإيمان إذا كان في الأخير شوائب وحشو توجب التمعن والتفكير.
(ت) "نفي القدر"، إن التزام المعتزلة بفكرة نفي القدر لكونها تصب في صالح حرية الإنسان، فلو لم يكن ذلك كذلك لأصبح الإنسان ليس مسؤولاً عن أفعاله وتصرفاته وكل ما يتعلق بسلوكيته الحياتية، وبذلك، كيف سيحاسبه الله في اليوم الآخر، ويثيبه أو يعاقبه، ولكي يتجنبوا الآيات القرآنية التي تشير إلى إثبات القدر أو نفيه، فقد عمدوا إلى استخدام التأويل لتحميل الآيات معاني تختلف عن لفظها الظاهر، على سبيل الذكر، إن الآية الكريمة: "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"، فإنه يتم إخراج المعنى الظاهر لكلمة "وجه" بالقول إن المقصود بها الذات لا أكثر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثانياً: العدل، يرى المعتزليون أن الله عادل لا يفعل الظلم، إذ "إن الله لا يحب الفساد ولا يخلق أفعال العباد، بل يفعلون ما أُمروا به ونُهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركّبها فيهم، وأنه لم يأمر إلا بما أراد ولم ينه إلا عما كره، وأنه ولي كل حسنة أمر بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم ما لا يطيقونه ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه، وأن أحداً لا يقدر على قبض ولا بسط إلا بقدرة الله التي أعطاهم إياها، وهو المالك لها دونهم، يفنيها إذا شاء ويبقيها إذا شاء، ولو شاء لأجبر الخلق على طاعته، ومنعهم اضطراراً عن معصيته ولكان على ذلك قادراً". (مروج الذهب، ج 3، ص 153).
معنى هذا، أن الإنسان حرّ في أفعاله، وهو المسؤول شرعاً عنها، وبما أن العدل الإلهي يوجب هذه الحرية للإنسان، إذاً، فإن الله لا يفعل الشر، بل إن أفعاله في الخير فقط، أما وجود الشر والفساد في العالم، فإن تفسير المعتزلة، أن الله لم يخلق أفعال العباد وإنما العباد قادرون خالقون لأفعالهم خيرها وشرها، مستحقون على ما يفعلون ثواباً أو عقاباً. ومن بين الأدلة العقلية التي يقدمونها هنا، "أن الإنسان يحسُ من نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي والصوارف، فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن ومن أنكر ذلك جحد الضرورة". (نهاية الإقدام في علم الكلام، ص 79).
وبحسب مفهوم المعتزلة، أن العدل الإلهي يوجب الصلاح للعباد، إلا أن بعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك ونصوا على أن عدل الله يوجب "رعاية الأصلح" للعباد، لأن فعل الله لا ينتفع به لنفسه بل لغيره، وقالوا إن الأصلح واللطف الإلهي يعني أن الله يهدي العباد إلى ما فيه الخير لطفاً بهم.
ثالثاً: المنزلة بين المنزلتين، على الرغم من أن واصل بن عطاء قد صقل مسائل نفي الصفات الإلهية ونفي القدر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أن مسألة المنزلة بين المنزلتين قد منحها اهتماماً خاصاً، لأن حدة الجدال فيها قد اشتدت بين طرفين رئيسين حول موقف أهل الكبائر. الأول، قول الخوارج في تكفير صاحب الكبيرة، والثاني، قول المرجئة في إيمانه، فاتخذ ابن عطاء منهجاً وسطياً بين الإيمان والكفر، إذ وفق رأيه، أن الأعمال هي جزء من الإيمان، فإذا كان هناك إخلال في الأعمال اختل الإيمان أيضاً، فلم يعد صاحبه يصدق عليه أنه مؤمن أو كافر، وهكذا اختط ابن عطا نهجاً لم يكن مطروقاً من ذي قبل بين مذاهب المسلمين.
رابعاً: الوعد والوعيد، يذهب المعتزليون إلى القول، إن الوعد والوعيد مقرون بالتكليف، والجزاء مقدر على الفعل والترك، فإذا لم يحصل من العبد فعل ولم يُتصور ذلك، بطل الوعد والوعيد وبطل الثواب والعقاب. وعليه، يكون التقدير هنا "أفعل وأنت لا تفعل، ثم إن فعلت ترتب الثواب والعقاب على ما تفعل، وهذا خروج عن قضايا الحس، فضلاً عن قضايا المعقول، حتى لا يبقى فرق بين خطاب الإنسان العاقل وبين الجماد، ولا فصل بين أمر التسخير والتعجيز وبين أمر التكليف والطلب". (المصدر السابق، ص 84).
خامساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي من ضمن التطبيقات العملية إلى مبدأ العدل الاجتماعي، كما أنها شرط من الشروط الواجبة بغية تحقيق العدل في المجتمع، وبذلك، فإن مرتكبي الكبائر، حكاماً أو محكومين، وجب عليهم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك"، كما ذكر الأشعري في "المقالات". وعلى الرغم من أن هذا القول يعني جواز الخروج على الحكام الفاسدين وقتالهم عند القدرة، إلا أن المعتزلة لم يحفلوا بالسيف بل بالقلم.