ما إن هدأت الأوضاع في ليبيا مع نجاح المسار السياسي الذي أفرز حكومة وحدة وطنية، سارعت دول عدة إلى فتح قنوات اتصال مع الحكام الجدد المؤقتين من أجل عرض خدمات أو توفير ما يلزم أو تقديم مساعدة، كل ذلك تحت غطاء إعمار ليبيا، فيما تبدو الجارة الغربية، الجزائر، غائبة عن هذا المجال.
غياب واستغراب
وفي حين تشهد العاصمة الليبية طرابلس توافد مسؤولين من مختلف بلدان العالم، مقابل تنقلات كثيفة للوزراء الليبيين الجدد، تارةً بقيادة رئيس الحكومة عبد الحميد دبيبة، وتارةً أخرى بمفردهم، باتجاه عواصم عدة، في حيوية تكشف عن تنافس قوي على المشاريع والصفقات والاتفاقيات التي تدخل في إطار إعمار البلاد التي دمرتها الحرب الأهلية، تبقى الجزائر بعيدة من الأحداث المتسارعة متمسكةً بالخط السياسي المبني على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والسعي إلى جمع الفرقاء في شكل مصالحة.
وما عدا إتمام 16 مهندساً جزائرياً من شركة "سونلغاز" للكهرباء والغاز، صيانة وحدات "الخُمْس" شرق طرابلس، بعدما قضوا أسبوعين لضمان الخدمة وتخفيف معاناة الليبيين من الانقطاع المتكرر للكهرباء في المنطقة الشرقية، إضافة إلى فتح الحدود بين البلدين من أجل تصدير بعض أنواع السلع، لم تتحرك الجزائر في ليبيا من أجل حجز مكان لها على قائمة المعنيين بإعمار الجارة الشرقية، الأمر الذي أثار استغراب المتابعين في الداخل والخارج.
3 أسباب
تعليقاً على "الغياب" الجزائري، يرى الباحث الاقتصادي مراد ملاح، أن الجزائر "لا تزال وفية في مقاربتها للسياسة الخارجية لمفهوم عدم التدخل في شؤون الدول، وهو شعار وفلسفة تبنتهما منذ نشأتها كدولة، وجرى العمل بهما لعقود، فيما الإسهام الاقتصادي الخارجي لا يدخل فيه تحقيق مصالح اقتصادية وتجارية، وإنما فقط الهبات والمساعدات ممثلةً بطائرات تحمل أطناناً من المواد الغذائية وغيرها، وشطب الديون كما حدث في عام 2013 مع مسح ديون 14 دولة بقيمة ناهزت مليار دولار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف ملاح أن "هذا ليس السبب الوحيد، فإن القطاع الخاص في الجزائر الذي كان بإمكانه المبادرة والاهتمام بالأسواق الخارجية وإعادة الإعمار في ليبيا على غرار مجلس رجال الأعمال التونسيين مثلاً، مكبل بهيئات بيروقراطية جعلته يفتقد روح المبادرة والمخاطرة".
ويواصل ملاح، "يمكن أيضاً أن نعزو الغياب الجزائري لعدم وجود مقدرة حقيقية على ولوج السوق الليبية، باعتبار أن الجزائر أغلقت سفارتها لسنوات طويلة في طرابلس، وبقيت بعيدة جداً عن المشهد الليبي باستثناء بعض الزيارات القليلة والمتأخرة نسبياً لوزير الخارجية صبري بوقادوم إلى طرابلس، كان آخرها الزيارة التي رافقه فيها وزير الداخلية كمال بلجود وأعطت انطباعاً بأن الجزائر الرسمية مصرة على البقاء بعيدةً عن مشاريع الإعمار"، مشيراً إلى أن "دولاً مثل مصر وتونس وتركيا أوفدت وزراء في قطاعات النقل والبناء والبنية التحية والاتصالات والصحة والصناعة والطيران المدني، فيما أرسلت دول أوربية وفوداً رفيعة المستوى يقودها رؤساء حكومات وشخصيات بارزة على غرار فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليونان".
ليس من الاهتمامات
من جانبه، يعتبر أستاذ الاقتصاد، أحمد الحيدوسي، أنه "كان لغياب الجزائر عن المشهد الليبي منذ بداية الأزمة تأثير مباشر في إطالة عمر الصراع، لكن التحركات المهمة للدبلوماسية الجزائرية أخيراً أسهمت في عودة الاستقرار والأمن في هذه الدولة الجارة، وهذه من قيم ومبادئ الجزائر التي لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ولا تعمل على تأجيج الصراعات". ويوضح أن "وقوف الجزائر على المسافة ذاتها بين الخصوم جعلها تكسب ثقة كبيرة، لأنها أثبتت أنها لا تسعى للحصول على مصالح مادية من الصراعات، وهو ما صرح به الرئيس (عبد المجيد) تبون حين قال: لا نريد بترولكم بل نريد الحفاظ على دمائكم".
ويتابع الحيدوسي، أن "الغرب يحاول الوصول إلى الكعكة الكبيرة التي يمكن أن تتجاوز 100 مليار دولار، لكن هذا ليس من اهتمامات الجزائر، فما يهمها في هذا المجال، هو عودة شركة "سوناطراك" النفطية إلى مشاريعها السابقة"، مشدداً على أنه "منذ استقلال الجزائر، لم يكن أبداً من اهتمامات الدبلوماسية الجزائرية البحث عن مكاسب اقتصادية على حساب دماء الشعوب، لذلك لم تدخل أبداً في التنافس مع القوى التاريخية على الموارد الطبيعية للشعوب، خاصةً الأفريقية".
100 مليار دولار... ولا تسرّع
لا توجد أرقام حقيقية تتعلق بفاتورة إعادة إعمار ما تهدم من مدن ليبية خلال الاشتباكات والمعارك في مختلف مناطق البلاد، باستثناء اجتهادات بعض المختصين الذين قدروا أنها ستكلف أكثر من مئة مليار دولار، وهو ما يسيل لعاب دول عدة ما عدا الجزائر التي تبقى على "الهامش".
في السياق ذاته، يعتبر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، سمير محرز، أن "الجزائر قدمت مقاربتها السياسية والأمنية، وأما الطريقة التي يتم بها إعمار ليبيا حالياً خاطئة بالمنظور الجزائري، لأن ما يسبق بناء الهياكل والمطارات هو بناء المواطن الليبي والمؤسسات الدستورية وحياة سياسية بعيدة من الصراعات".
ويرى أن التحدي السياسي والدبلوماسي الجزائري قائم على بناء الأمن داخل ليبيا أولاً"، موضحاً أن "الجزائر معنية بإعادة إعمار ليبيا، لكن لا ترغب أن تتسرع في طريقة الإعمار، لأن ما هو حاصل في طرابلس يوحي بنوع من التدخل الخارجي، وهذا ما يتعارض مع قيم دستورها".
ويقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، إن "الدبلوماسية الجزائرية باتت معروفة تجاه حلحلة الأزمات الداخلية في دول الجوار، بأنها تنطلق بالحوار السياسي بين الفرقاء كخطوة أولى".