لم تمنع الظروف القاسية التي تمر بها سوريا، المخرج هشام كفارنة من تقديم عرضه الجديد "الأشجار تموت واقفة". التجربة التي قدمها صاحب "شوباش" مع المسرح القومي، عاد فيها إلى إعداد نص الكاتب الإسباني أليخاندرو كاسونا (1903- 1965) مستنبطاً منه أجواء رقصات الفلامنكو، والمنازل التي تحيط بها الأشجار، في مقاربة لحلم دمشقي بغرناطة الأندلسية. وقد حاكى عبرها حال العائلة السورية في الحرب، من غير الدخول في التفاصيل، بل عبر القصة الإنسانية التي كتبها كاسونا في أربعينيات القرن الماضي، متمماً بها نصوصه التي مزج بها الخيال بالواقع.
كابد العرض السوري انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي، وإصابة أحد ممثلي العرض الرئيسين (علي القاسم) بفيروس كورونا ووفاة شقيق الممثلة الرئيسة في العرض (أمانة والي) قبل أيام من الافتتاح. مدة المسرحية قرابة الساعة و15 دقيقة، وقد هيأ لها كفارنة سينوغرافيا وضعها بنفسه، مستيعناً بديكور محمود الجوابرة، الذي ركّز فيه على ملامح من بيت ريفي تحيط به أشجار لحديقة خلفية، بينما تتوزع حجراته بين اليمين واليسار على خشبة مسرح الحمراء، تبعاً لإغماضات الإضاءة التي صممها بسام حميدي، وبالتناوب مع مراحل تطور قصة العرض. وهي تروي عبر ثلاثة فصول في النص الأصلي حكاية رجل عجوز (عدنان عبد الجليل) يعيش مع زوجته المُسنة، التي لا يثيرها إلا فكرة انتظار حفيدها الغائب (سليمان قطان)، الذي كان الجد طرده من البيت بسبب سلوكه المنحرف وارتكابه لسرقات متكررة.
كانت الجدة تحن لرؤية حفيدها الوحيد، وزوجها لا يقدر على رؤيتها تذبل أمام عينيه، وتعيش بلا أمل، فابتكر طريقة لإسعادها، متفقاً مع صديق مقيم في كندا على إرسال رسائل تحمل اسم الحفيد الغائب. في هذه الرسائل يكتب أنه أصبح شاباً ناجحاً وودّع حياة اللهو. وهذا ما يعيد الحياة لتدب في أوصال الجدة، وتسارع في الرد على رسائل حفيدها، الذي سيحضر هو وزوجته (قصي قدسية و روجينا رحمون) في صيغة مزيفة، مستغلين ضعف نظر الجدة، وعدم قدرتها على التفريق بين حفيدها الحقيقي وحفيدها المزور.
مفارقات مسرحية
من هنا تبدأ مفارقات عدة في استعادة ذكريات مشتركة بين الجدة وحفيدها، فلا تلبث أن تقع زوجة الحفيد المزيف في حب زوجها المستأجر لأداء هذا الدور، وتصاب بالضعف أمام شخصية الجدة القوية والحازمة. في هذه الأثناء، يصل الحفيد الحقيقي من غيابه الطويل مهدداً الخادمة (عبير بيطار)، ومطالباً الجد ببيع بيته من أجل سداد ديونه في كندا، مهدداً بفضح مسرحية الجد في تلفيق صورة حميدة عنه وعن زوجته المتخيّلة. لكن الجدة سرعان ما تكتشف في نهاية المطاف، وبعد 20 عاماً من الانتظار، أن الأمل الذي عاشت من أجله كان غير واقعي، وأن جميع الرسائل التي وصلتها من حفيدها كانت مزيفة ومن ترتيب الجد، وأن حفيدها الحقيقي بقي على حاله سارقاً ومجرماً. وهذا ما يدفعها إلى المواجهة، وإعلانها على الملأ أنه إن كان من داع لموتها، فإنها ستموت واقفةً كالأشجار، في إحالة رمزية إلى قوة الإرادة، فالأشجار في العرض رمز للبشر الذين يثبتون أمام عواصف الحياة، حتى إذا انهزموا ماتوا وقوفاً على أقدامهم.
مزج المخرج كفارنة الخيال بالواقع في هذه المسرحية، ليثبت أن السبيل الوحيد للتغلب على المصاعب هو مواجهتها مواجهة قوية، وأن الإرادة تفعل المستحيل. فشخصيات هذه المسرحية تنحدر من الواقع، وتتحرك في بيئة خيالية غير موجودة فعلياً. ففطرة الإنسان المبنية على التعاطف مع الآخرين لن تغيّر في الواقع شيئاً، بل ستدفعه إلى مزيد من الغرق في المأساة، واستجداء الشفقة. وشراء القلوب لا يكون بتزويرها، بل بالانتصار للحقيقة، و مهما كانت الحقيقة قاتمة وحالكة، إلا أن الحلم لن يغير من واقع الأمر شيئاً، بل سيزيد من تعقيد المشكلة وتأزيمها.
يتابع العرض تقشير الطبيعة الإنسانية، ونزع التعاطف منها، لتصير الشخصيات المزيفة والواقعية وجهاً لعملة واحدة، ولتندلع أنواع عدة من الصراع الأفقي والداخلي، يقودنا إلى لعبة درامية ذكية. فهناك شخصيات على الخشبة تمثل أدواراً على شخصيات أخرى، وتلعب مسرحية التعاطف مع الجدة في نوع من لعبة المسرح داخل المسرح. لعبة ورطت الجمهور بمتابعتها، والتعاطف مع شخصية الجدة، دون تحول هذه اللعبة من الذاتي إلى الموضوعي، فتظل حكاية العرض برانية عن واقع جمهور الحرب السورية.
المعادلة الدرامية
هكذا أتى خيار المسرح المتحفي جلياً في العرض السوري، منسحباً إلى أبعاد رمزية صرفة ظلت مخلصةً لبيئة وظرف النص الأصلي، دون الاشتغال على مقاربة فنية تحقق المعادلة الجوهرية في الفن المسرحي، "الآن وهنا، نحنُ والآخر". فالجمهور في النهاية (كما يقول المفكر الفرنسي رولان بارت) كائن تاريخي وجغرافي، ولا يمكن بحال من الأحوال مناقشة الأفكار على حساب توطين النص، وتهيئته ليصبح ملائماً لهواجس المتفرج وهمومه الراهنة، وليبدو الإخلاص لحيثيات النص الأصلي نوعاً من الإصرار على تقديم مسرحية أدبية يلقيها الممثلون على أسماع الحضور من غير تحويلها إلى مادة تعنيه وتستفزه. وهو ما أبقى "الأشجار تموت واقفة" في نسخته السورية عرضاً استعادياً من أرشيف المسرح الجاد، واستذكاراً للصيغة التي قدمها سابقاً المخرج والكاتب علي عقلة عرسان عام 1976.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حافظ العرض على تقليد الأزياء الإسبانية (سهى العلي) منتصف القرن الفائت، والمضي في محاكاة أسلوب العيش الإسباني، سواء عبر تناول الكحول أو الرقص (تصميم جمال تركماني)، أو حتى عبر موسيقى (توليف قصي قدسية). وهي تآلفت مع بقية عناصر العرض، لتبقى اللغة العربية الفصحى نشازاً عن المعطى المادي للعرض، فالممثلون يتحدثون بلهجة عربية متينة، ويشربون ويرقصون الفلامنكو.
مفارقة فنية اتسمت بها معظم عروض المسرح القومي، وذلك لانشغالها في استيراد نصوص أجنبية، وتقديمها في صيغتها المترجمة من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية، حتى دون البحث عن معادل فني وكلامي قادر على إنعاشها مجدداً، ونقلها من حالة النص الأدبية الخرساء إلى حالة العرض على الخشبة. ذلك مع الإصرار على ابتسارها وتلخيصها مجدداً للجمهور، فتصبح عبارة عن نسخ مكررة عن زمان أومكان كتابتها، من دون مراجعات دراماتورجية ناضجة لتخليقها مجدداً على ألسنة الممثلين. إضافة الى دفع الحياة في عباراتها المتكلفة، لتصبح مادة درامية حية، ولتظل مفصولة عن سياقات وواقع جمهورها سياسياً واجتماعياً وثقافياً.