في هذه الأيام، لا صوت يعلو فوق صوت "عجقة العيد" في عاصمة شمال لبنان طرابلس، بعد ما مرّ قطوع "المسيرة المؤيدة لترشيح رئيس النظام السوري بشار الأسد لفترة رئاسية جدبدة، التي نظمها "حزب البعث" في منطقة جبل محسن بسلام. إلا أن حالة الهدوء هذه لا تلغي المخاوف من احتمال عودة أحداث العنف الأهلي السابقة على مرحلة السلام البارد.
"البعث" عاد
مساء الأحد 2 مايو (أيار)، نزل "حزب البعث" إلى الشارع في منطقة جبل محسن ذات الأغلبية العلوية، تحت شعار "مبايعة" رئيس النظام السوري بشار الأسد في ولاية رئاسية جديدة. نظر كثيرون بعين الريبة والتوجس. تعددت القراءات، فهناك من اعتبر التحرك محاولة لتوتير الساحة الطرابلسية وإعادتها صندوق بريد للصراعات الإقليمية، على أن ينتقل التوتر إلى صفوف اللاجئين السوريين، فيما وضعها آخرون في دائرة محاولة وضع اليد على الشارع العلوي في ظل غياب رئيس "الحزب العربي الديمقراطي" رفعت عيد المتواري في سوريا. وبين هذا الرأي وذاك، هناك من يضعها في دائرة المتحمسين لمن يرون فيه "الركن الأساس في حلف الأقليات".
يجيب عمار أحمد، عضو القيادة القطرية في "حزب البعث" في لبنان، عن هذه التساؤلات، فهو لا يتوقع حدوث أي حساسيات أو إشكالات بين "الإخوة والأهل السوريين المقيمين في لبنان"، و"لا مصلحة في الإشكالات إلا للضالعين في التآمر على الشعب السوري"، معللاً موقفه بأن "أغلبيتهم تدرك أهمية الاستحقاق الانتخابي الرئاسي في هذه المرحلة الخطيرة، والمؤامرة ما زالت مستمرة، وكذلك المتاجرة بقضيتهم لمنع عودتهم إلى ديارهم".
ويلفت أحمد إلى أن "المشاركة الكثيفة في الانتخابات الرئاسية في 2014 فاجأت كثيرين، وهم اليوم أكثر عزماً على المشاركة في هذا اليوم الوطني".
ويتحدث أحمد عن "الطابع الديمقراطي للاستحقاق الرئاسي، نظراً لتعدد المرشحين". ويلفت إلى وجود تنسيق مع "القوى الحليفة في محور المقاومة"، واضعاً "الحزب العربي الديمقراطي" في عداد القوى الحليفة، على الرغم من "التنافس المشروع على الأرض"، فإن ثمة "اتفاقاً على إنجاح هذا الاستحقاق التاريخي".
الوجدان العلوي مع الأسد
ليس مستغرباً وقوف كثيرين في جبل محسن خلف الحزب الحاكم في سوريا. فسكان المنطقة على اتصال مستمر مع الداخل السوري، إذ يقصدون باستمرار أهاليهم وأقاربهم في طرطوس واللاذقية. ويؤكد الشيخ أحمد عاصي أن "حزب البعث ينشط تنظيمياً على الأرض من خلال تسجيل الأسماء وتجميع البيانات من أجل الانتخابات".
ويعيش في جبل محسن نحو 60 ألف نسمة، معظمهم من الطائفة الإسلامية العلوية، وهناك نحو 5 في المئة من السكان يحملون الجنسية السورية، ولم يتحصلوا على الجنسية اللبنانية في مراسيم التجنيس. ويعيش هؤلاء منذ عشرات السنين.
يعتقد عاصي أنه ليس من شأن المحور الذي تنتمي إليه الحكومة السورية توتير العلاقات بين جبل محسن والمحيط. ويتحدث عن "رابط وجداني بين الطائفة العلوية ومحور المقاومة وسوريا". وعما إذا كان سبب الحماسة للأسد هو كونه علوياً، يؤكد عاصي أنه لا علاقة لذلك، لأن "العلوي صاحب توجهات عروبية منذ قيامة لبنان، ويمثلها حالياً النظام الوطني في سوريا".
ويتحدث عاصي عن "ميول وحدوية" لدى أبناء الطائفة العلوية، لأنه عندما قامت الدولة العلوية في الساحل السوري منذ 1920 ولغاية 1936، استمرت الدعوات الوحدوية العروبية لدى أبناء الطائفة، إذ رفض كثيرون منهم الانفصال عن الدولة المركزية في دمشق. لذلك، فإن أبناء الطائفة العلوية لا يخرجون عن دائرة الهموم اللبنانية اليومية.
تحفظ عن التحركات في الشارع
انقسمت المواقف داخل جبل محسن وخارجه إزاء مسيرة الدعم للأسد، فالبعض صنفها ضمن دائرة "التحركات الاستفزازية"، خصوصاً في ظل القرار القضائي الذي دان شخصيات في النظام السوري بتفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس.
كما أن هذه التحركات لم تسلم من الانتقاد داخل البيئة العلوية، ويشير الناشط يوسف الشتوي إلى أن "موقف جبل محسن معروف بوقوفه إلى جانب الحكومة السورية، وهناك رأي عام ينتمي إلى النهج القومي"، إلا أنه في المقابل "هناك الروح اللبنانية لدى أبنائها". ويعتبر الشتوي أن هذه التحركات تعطي نتائج عكسية على أبناء المنطقة، كاشفاً أن "الدعوات إلى التحرك في الشارع استفزت الرأي العام العلوي أيضاً".
ويعتبر الشتوي أن هذه التحركات قد تعطي مبرراً لـ"عملية العزل" وزيادة أعباء الهم المعيشي من خلال حجب المساعدات الاجتماعية عن جبل محسن. ويلفت إلى أن "الطائفة العلوية ليست جزءاً من الأزمة السياسية الحالية في لبنان، فهي لا تحوز وزيراً أو حصة حكومية، لذلك يجب عدم إدخالها في صلب الأزمة عبر التحركات في الشارع". ويستبعد حدوث أي احتكاكات في الشارع، واضعاً ما يجري بين الفينة والأخرى ضمن الإشكالات الفردية.
سوق الالتقاء
عند مدخل سوق القمح الذي يجمع ضفتي شارع سوريا، يستقبلك بائع البرازق، الحلوى السورية الشهيرة. هذا المشهد بحد ذاته، يُقدم صورة عن التداخل الثقافي والاجتماعي بين الشعبين الجارين، ولكنه في المقابل، يُذكر بالاختلاف في الهوية الذي يظهر في كل فينة وأخرى بدءاً من تأسيس لبنان الكبير (1920) وصولاً إلى يومنا هذا. ذلك أن طرابلس لطالما جهدت لتقديم هوية مستقلة خاصة بها تختلف عن المدن اللبنانية، كما أنها تلتمس الاستقلالية، وأحياناً القطيعة عن العمق السوري لأسباب مختلفة، تارة سياسية وطوراً عقائدية.
تُقدم هذه السوق الواقعة في منطقة باب التبانة مساحة للتعامل والتبادل بين أبناء المنطقة الواحدة، التي فرقتها المذهبية والمواقف من "نظام البعث" في سوريا. وتمكن أبناء هذه السوق التي تعج بالحياة من رفع ركام الاشتباكات و23 موجة من العنف الأهلي.
الهم المعيشي يتقدم
لا تختلف الصورة في منطقة باب التبانة، عن مشهد جبل محسن. فالفاصل بينهما شارع يسمى سوريا، الذي كان خط تماس في اشتباكات تكررت على مدى سنوات. لكن، اليوم، الهم المعيشي تقدم على ما سواه من الهموم، من سوق الخضر والفاكهة، إلى الجامع الناصري، وصولاً إلى شارع سوريا، يشكو أهالي التبانة من الحالة المعيشية الرديئة وغياب الدولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالانتقال إلى الجانب الآخر، صعوداً نحو أحياء جبل محسن الموازية لخطوط التماس التقليدية، تظهر الحركة التجارية الخفيفة، فيما يجلس بعض الباعة في انتظار الزبائن، نزولاً نحو حي السيدة لا شيء مختلفاً، فقد "اكتوى الجميع، تجاراً وزبائن، بلهيب ارتفاع سعر الدولار". أما الهم السياسي فيحل في الدرجة الثانية. ويجزم مختار التبانة محمد زهرة بأن "الأولوية الآن للهم المعيشي، فالعائلات لا تجد قوت يومها، والمريض لا يجد علبة الدواء، وهناك أزمة كبيرة تتعلق بالمياه الملوثة".
ويلفت زهرة إلى أن "الناس تعبت من الصراعات التي لا طائل منها"، ويؤكد أن "الحياة عادت إلى طبيعتها بين أبناء جبل محسن وباب التبانة، نحن نقصد الجبل للقاء أصدقائنا، وهم ينزلون إلى التبانة لقضاء حوائجهم". ويُطالب بأن تلتفت الدولة والجهات المانحة إلى المنطقة لإحياء البشر، لأن ترميم الواجهات الحجرية وحده غير كافٍ".
طرابلس غير معنية
على الرغم من الاستفزاز الذي شكلته المسيرة الداعمة للأسد في الرأي العام الطرابلسي، فإن موقف "اللامبالاة" هو السائد. يشير الناشط السياسي عربي عكاوي إلى أن "الموقف العام في طرابلس ما زال يناصر الثورة السورية، ولا تعنيه الانتخابات الشكلية هناك، لأن نتيجتها معروفة سلفاً وبشار الأسد هو من عين المرشحين المقابلين، وذلك لن يمحو واقع البلاد المدمرة، وعشرات الآلاف من الأسرى والقتلى وملايين المشردين".
ويستبعد عكاوي، ابن قائد المقاومة الطرابلسية خليل عكاوي، احتمال وقوع أي مشاكل في طرابلس، لأن "مَن يقف مع بشار ما زال معه، ومن ضده حافظ على موقعه، كما أننا نتجه نحو تسويات في المنطقة ولا وجود لتمويل أو تبن لهذه الصدامات". ويضيف "تعلمنا درساً مكلفاً، وتنذكر ولن تنعاد"، كما أن الهم المعيشي هو الأصعب حالياً.
يتمنى عكاوي تجاوز طرابلس حقبة الصراع التي بدأت في 1976 مع دخول النظام السوري إلى لبنان، وبدء الصراع بين الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية من جهة والنظام السوري من جهة أخرى، مذكراً بوقوف والده إلى جانب المقاومة الفلسطينية ضد الرئيس حافظ الأسد الذي احتضن جبل محسن.
في المحصلة، تاريخياً، انعكس الصراع بين ياسر عرفات وحافظ الأسد على الواقع الطرابلسي، مروراً بصراع حزبي "البعث" في سوريا والعراق، وما زالت ذيوله مستمرة في النفوس والمباني في التبانة التي ما زالت تشهد على قساوة الخصام بين الإخوة وأبناء المجتمع الواحد.