Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بهروز بوتشاني يوثق مأساة فراره في "لا صديق سوى الجبال"

رسائل "واتساب" من داخل سجن رهيب في المحيط الهادئ

مشهد من سجن جزيرة مانوس (الخدمة الإعلامية للأمم المتحدة)

ينتمي كتاب "لا صديق سوى الجبال: مذكرات من سجن مانوس"، الذي صدر أخيرا مترجماً من الإنجليزية إلى اللغة العربية، (ريم داوود - دار "العربي")، إلى أدب السجون، وهو من تأليف الكاتب الإيراني بهروز بوتشاني، وتقديم أوميد توفيقيان.

وعلى الرغم من أن معظم متن الكتاب يدور حول معسكر للاجئين في جزيرة في بابوا غينيا الجديدة، تهيمن على إدارته السلطات الأسترالية، إلا أن المكان الذي يفترض أن يكون مركز إيواء تُراعى فيه أبسط حقوق نزلائه من الفارين من جحيم نظم الحكم في بلدانهم، تحوّل إلى واحد من أبشع سجون العالم وأقساها حتى عند مقارنته بمحطات تجميع العبيد في أزمنة غابرة. وللعلم فإن دولة بابوا غينيا الجديدة، تقع في النصف الشرقي من جزيرة بابوا (ثاني كبرى الجزر في العالم) في جنوب غرب المحيط الهادي، في قارة أوقيانيا بالقرب من إندونيسيا.

تمتاز لغة السارد الذي هو نفسه بهروز بوتشاني، بسمات الكتابة الأدبية الرفيعة، خصوصاً وأن السرد في هذا الكتاب مطعَّم بعدد كبير من القصائد البديعة في مجال أدب السجون. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن بوتشاني كاتب وصحافي وشاعر وباحث يراني – كردي، وهو عضو فخري في نادي القلم الدولي، كتب بانتظام في مجلات وصحف عالمية كالـ "غارديان"، تخرج في جامعة "تربية مدرس" في طهران، وحصل على الماجستير في العلوم والجعرافيا السياسية، ونال كتابه هذا شهرة واسعة وفاز عام 2019 بالجائزة الأسترالية الرفيعة "فيكتوريا" للأدب، وجائزة "بريمير جنوب ويلز" الأدبية الجديدة، وجائزة "فيكتوريان بريمير" عن فئة الأعمال غير الروائية، وجائزة "صناعة الكتاب" الأسترالية، وجائزة "ناشيونال بيوغرافي" لكتب السيرة الذاتية، وجائزة "فوروورد إينديز تشويس" للعمل غير الروائي. وبوتشاني أيضاً منتج سينمائي، وقد أحتُجز في مركز الاعتقال الذي تديره أستراليا في جزيرة مانوس في بابوا غينيا الجديدة من عام 2013 حتى إغلاقه في عام 2017. وظل على الجزيرة قبل نقله إلى بورت مورسبي مع المعتقلين الآخرين في أيلول (سبتمبر) 2019.

رسائل "واتساب"

يوثق الكتاب أحداثاً حقيقية، أبطالها أشخاص سُجنوا من دون تُهم أو محاكمات، ذنبهم الوحيد هو رغبتهم في الحصول على الحرية والاستقرار. هربوا جميعاً من بلادهم متجهين نحو أستراليا، كلاجئين عبر رحلة بحرية في مركب متهالك من إندونيسيا، ففوجئوا بتغير القانون الخاص باللاجئين، وانتهى الأمر بهم في مركز اعتقال في جزيرة "مانوس"، التابعة لدولة بابوا غينيا الجديدة. كتب بوتشاني هذا الكتاب بطريقة غير مألوفة على الإطلاق، فقد هرّب هاتفاً خلوياً في معتقله، ليرسل عبر تطبيق "واتساب" لأصدقائه ما يحدث له، وجمع صديقه أوميد توفيقيان هذه الرسائل المكتوبة بالكردية في كتاب بعدما ترجمها إلى الإنجليزية.

كتب بوتشاني رسائله نثراً وشعراً، ليضمها في النهاية هذا الكتاب الذي جاءت ترجمته إلى العربية في 336 صفحة، شاملة مقدمة كتبها توفيقيان خصيصاً للقارئ العربي. ومما ورد فيه شعراً: "عشرات من الأشخاص المستلقين على الأرض/ الأرض مغطاة بالدماء/ الأجساد محطمة/ العظام مهشَّمة/ الوجوه مشروخة/ السيقان متكسرة/ والأذرع كذلك/ الشفاه مجروحة/ شاب بوجه تملؤه الجروح المفتوحة/ وكأنهم قاموا بحرث وجهه/ الدماء تنزف منه بغزارة". صـ 333.

كنايات وأسماء

غالباً، لا يسمي بوتشاني زملاءه في تلك المحنة، لكنه يطلق عليهم أوصافاً، منها "العاهرة"، وهو وصف يخص شاباً إيرانياً عُرف بين السجناء والحراس بولعه بالرقص والغناء، في ظل حماسة عدد من السريلانكيين والسودانيين، باعتبار أن مثل تلك الحفلات "هي إحدى وسائل النفوذ الضئيلة المتاحة للسجناء في مواجهة نظام الحاكم المستبد"، إلى أن أخفت المحنة "المرح المعتاد من نظراته". فبمرور الوقت "لم يعد في وجهه أي أثر لمشاغباته الطفولية. صار رجلاً مختلفاً الآن، رجلاً محطماً وخائفاً ومهزوماً". وهناك شاب آخر منحه السارد وصف "الأب"... "يجلس بعيداً من الرجال الذين يتلوون ألماً ويحاولون معالجة جروحهم. يجلس سانداً ظهره إلى جدار الخيمة، وقد ثنى ركبتيه واحتضنهما بذراعيه. مال برأسه على يديه، لا يزال في عينيه آثار مقاومة مبتورة. تحطَّمت نظراته المتمردة". وكان هناك أيضاً "صاحب الساقين المقوستين"، و"الجثة"، و"الإيراني الغاضب"، و"البطريق"، و"صبي الروهينغا"، على سبيل المثال، لا الحصر.

جرى تجميع هؤلاء اللاجئين في معسكر يطلق عليه "فوكس كامب"، داخل جزيرة مانوس... "الشمس في تلك الجزيرة هي الأكثر قسوة في العالم، ما إن تسنح لها الفرصة حتى تحرق كل شيء. في غياب السحاب تستولي على السلطة وتبدأ رحلة صيد شرسة. تقف أشجار جوز الهند في صفوف منتظمة حول السجن، يتيح لها طولها التلصص على المعسكر طوال الوقت، تعرف ما يجري داخله، ترى ما يحدث فيه، تشهد معاناة ناسه". صـ 120، 121.

وكتب بوتشاني أيضاً بلغته التي لا تخلو دائماً من سمات الشعر: "تخيّل وجود 400 شخص في مساحة لا تتجاوز 100 متر، تمَّ الزج بهم معاً، في إهمال، داخل قفص ساخن، شديد القذارة، لا يزال الهدير المخيف للأمواج يلاحقهم ويرن في آذانهم... بعد سنوات سأستعيد هذا الوقت، وأرى أنني كنت كشجرة جوز هند تمتد جذوري بعمق تحت الأرض، فيما تداعب الرياح شعري" صـ 134.

تجربة واقعية

يتصدر الكتاب التوضيح التالي: "كُتب هذا العمل لتقديم صورة واقعية للمركز الإقليمي البحري للاستدعاء في جزيرة مانوس، تحت إدارة أستراليا، ولنقل تجربة واقعية على لسان واحد ممن اعتقلهم النظام داخل ذلك المكان. هناك حدود لما يمكن الكشف عنه، وبخاصة في ما يتعلق ببقية المعتقلين، لذا تعمد الكاتب تغيير بعض التفاصيل المتعلقة بلون الشعر والعينين، والعمر والجنسية والاسم، عند ذكر أحدهم، ومع ذلك، لم يظن أن ذلك كاف لإبقاء هوياتهم مبهمة، ولذلك فإن كل شخصية في الكتاب هي عبارة عن مزيج من صفات وحكايات أكثر من معتقل" صـ 20.

وقد استثنى من ذلك رجلين توفيا في مانوس، هما رضا باراتي وحميد الخزاعي، فقد تعمد بوتشاني الكتابة عنهما بشكل صريح، "لأن حكايتهما معروفة على نطاق واسع، من جهة، ولآنه أراد ذكر اسميهما كنوع من التكريم والاحترام لهما"... "معظم الركاب إيرانيون وعراقيون، يمكنك أن تلاحظ افتنانهم بفكرة وجود أسرة سريلانكية بينهم. أطفال من مختلف الأعمار، يقترب بعضهم من سن البلوغ".

أما المحنة فقد كانت لها فصول أخرى سبقت السجن في جزيرة مانوس... "تحملتُ 40 يوماً من الجوع داخل قبو فندق صغير في كينداري (إندونيسيا) كانت المنطقة قد تحوَّلت إلى نقطة جذب للاجئين. الشرطة لا تطلق الرصاص أبداً. حين يأمرونك بالتوقف، عليك أن تركض بأسرع ما تستطيع. إياك والبقاء في مكانك. أمضيتُ الأشهر الأخيرة خائفاً، ومتنقلاً بين المطارات والبلدات الساحلية، والمكان المنشود هو أستراليا". ثم غرقت المركب التي حملتهم بعدما غادرت المياه الإندونيسية، وأنقذت معظم ركابها سفينة بريطانية.

خطوة بين الحياة والموت

واستثنى بوتشاني كذلك الممثلة الإيرانية جُلشيفته فرحاني، فذكرها من دون تمويه... "رغم إحساسنا بالضياع في قلب المحيط، كانت متماسكة وشجاعة، وحافظت على كرامتها" صـ 63. كان معها زوجها وطفلاها في تجربة "تعكس طبيعة الموت. الاقتراب منه ولو لخطوة واحدة، يمنح الحياة معنى بالغ العمق والروعة". أما الجوع الشديد في ظل تلك المأساة فهو في رأي بوتشاني "قوة لا يستهان بها. إنها تجتاح كل شيء. حبَّة فستُق واحدة أو تمرة واحدة، تقرر ما إذا كان الإنسان سيحيا أو يموت"، صـ 65.

وكتب بوتشاني كذلك: "لسنوات وسنوات، كنتُ أفكر في نيل حماية الجبال (جبال كردستان) منطقة يتحتم عليّ فيها استخدام السلاح. منطقة يتعين عليّ فيها الوجود بين أشخاص لا يفهمون قيمة القلم. منطقة أضطر فيها للحديث بلغة ناسها. لغة المقاومة المسلحة. في كل مرة أدرك قوة القلم وتأثيره أتراجع عن قراري".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عموماً، انتهت تلك المأساة بالإعلان عن عدم شرعية "المركز الإقليمي للاستدعاء" في جزيرة مانوس، من قبل سلطات دولة بابوا غينيا الجديدة في 2016، وتم إغلاقه نهائياً في تشرين الأول (أكتوبر) 2017. وتم الانتهاء من هذا الكتاب في الأسابيع التالية للإغلاق. خلال تلك الأسابيع، ألقت القوات شبه العسكرية لبابوا غينيا الجديدة القبض على المؤلف، وأطلق سراحه بعدها من دون توجيه تهمة له. أما مئات الأشخاص المعتقلين هناك، في تلك الفترة، فقد تم توزيعهم على منشآت سكنية مختلفة، في الجزيرة. عند طباعة النسخة الانجليزية من العمل، كان بهروز بوتشاني، لا يزال في جزيرة مانوس.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة