تشير دراسة نشرها موقع "غوغل" حول فن القصة القصيرة وولادته على الصعيد العالمي، إلى أن النتاجات الأولى في هذا المجال كانت بالتحديد تلك المقامات المدهشة التي شكلت وأطلقت في الوقت نفسه ولادة هذا النوع في الأدب العربي. وبالنسبة إلى الموقع العالمي الذي يستند عادة إلى العديد من الدراسات التي يولّف بينها، ظهرت القصص، أو الحكايات القصيرة في الأدب العالمي، أول ما ظهرت، عبر مقامات بديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري لتنتشر بعد ذلك في شتى أنحاء العالم. بالتالي فإن هذا التاريخ يضع المقامات إلى جانب "ألف ليلة وليلة" بوصفها الجذور المنظورة لفن أدبي سرعان ما بات يعتبر طوال نحو ألف عام، من أكثر صنوف الأدب انتشاراً في العالم.
من مصادر التاريخ الاجتماعي
ومن هنا واستناداً إلى تلك المقامات التي تقوم على عدة عناصر حكائية تترابط في ما بينها، ومنها كون البطولة معقودة فيها غالباً إلى شخصية المحتال الظريف، وكونها قادرة على أن تقدم لنا صورة متنوعة للمجتمعات التي تدور فيها الأحداث، ناهيك عن قدرتها على رسم الصراعات الاجتماعية والتوزعات الطبقية، يمكن دائماً اعتبار تلك المقامات واحداً من مصادر دراسات التاريخ الاجتماعي العربي. ولئن كان من الصعوبة بمكان هنا التوسع في كل هذه العناصر، قد يكون من الطريف والمفيد في آن معاً أن نتوقف عند العنصر الأول والمتعلق بدور "البطل" في تلك الحكايات، وهو بالتحديد بطل إشكالي غالباً ما يكون محتالاً كما أسلفنا، وكما يفيدنا الباحث المصري الراحل علي الراعي في كتاب ظريف له صدر منذ عقود بعنوان "شخصية المحتال في المقامات والحكايات والرواية والمسرحية"، ويقوم فيه بخاصة برصد مفيد وجيد لشخصية المحتال في الأدب العالمي انطلاقاً من فكرة راسخة ومؤكدة لديه مفادها بأن شخصية المحتال إنما تجد جذورها في أدب المقامات العربية وفي ألف ليلة وليلة.
نجاح المحتال وشعبيته
ينطلق الراعي في كتابه من الإشارة إلى أنه، "على الدوام، وفي طول تاريخ الأدب العالمي وعرضه، كانت الروايات والقصص التي للمحتالين الدور الأول فيها هي الروايات الأكثر شعبية ونجاحاً... بحيث شكلت في نهاية الأمر صنفاً أدبياً خالصاً يسمى "أدب البيكاريسك" يمكننا أن نعثر له، ومنذ القرون الوسطى، على نماذج جيدة وناجحة في آداب كل الشعوب تقريباً". ويقول الدكتور الراعي في تقديمه للكتاب: "يقول الفيلسوف الفرنسي رينان إن الأدب في العصور الوسطى كان ينتقل بسرعة تدعونا إلى الدهشة فلا نستطيع اليوم أن نجد لها تفسيراً. إن كثيراً من الأعمال التي وضعت في مراكش والقاهرة كانت لا تلبث أن تعرف في باريس أو في كولونيا في وقت أقصر مما كان يحتاجه كتاب ألماني هام كي يعبر نهر الراين". وهكذا "على أجنحة الكلمة المسافرة، وفي أمتعة الرحالة والجنود والتجار وعلى شفاههم كان المتاع الأدبي يعبر البحار والجبال وينتقل من قارة إلى قارة: الأشعار والأغاني والحكايات كانت تنبت لها أقدام غير مرئية تمشي بها أو تعود حتى تبلغ أشد البلاد بعداً من موطنها الأصلي. وعبر هذه الدروب التي لا ترسمها خريطة، ولا تقف في طريقها حدود، عرف الأوروبيون – الإسبان بخاصة – ألواناً بعينها من آداب الشرق وأدب العرب، عرفوا كليلة ودمنة وألف ليلة. وفي إيطاليا، كتب الشاعر الإيطالي بترارك (1304-1374) في كتابه "رسائل" يقول: أما في ما يخص الشعراء العرب، فإني على معرفة وثيقة بأعمالهم. غير أن هذه المعرفة لا بد كانت سطحية، فإن بترارك، كان يحركه كره خاص للعرب، ليصف شعرهم بأنه رخو، غير ذي قوام، وفاحش. أما الذين عرفوا الشعر العربي حقاً فقد كانوا قسس إسبانيا ودارسيها، يعبر عن هذه الحقيقة بوضوح تام ما أثر عن القس الفاريز القرطبي من قول: "إن عدداً كبيراً من الناس يكتبون قصائد بالعربية تفوق في رشاقتها ما يكتبه العرب أنفسهم". وهو قول أكده ما ظهر للناس من قصائد كتبها شعراء مسيحيون بالعربية، بل إن في مدريد مخطوطة تحمل قرارات كنسية تحوي إهداء بالشعر العربي كتبه قس اسمه: فينسنت. وفي فن الحكاية اغترف فنان إيطاليا الشاعر القصصي بوكاشيو من أدب المشرق والعرب وضمن كتابه القصصي المعروف: "الأيام العشرة" حكايات بعينها. كما عرف الحكاية الشرقية، مضموناً وشكلاً، الشاعر القصاص الإنجليزي: تشوسر، الذي كتب رائعته "حكايات كانتربري"...".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأصول العربية المباشرة
ولعل في مقدورنا أن نقول هنا إن كل ما سبق يبدو وكأنه مجرد تمهيد للغوص في فن المقامة حيث يجد القارئ ضمن فصول الكتاب شواهد قوية على تأثر الفن القصصي الإسباني، ومن ثم الغربي عموماً، بالمقامات، وبشخصية المحتال المخاتل الدائم التجوال، التي عرفت الحياة في مقامات البديع والحريري.
وبشكل عام ربما يكون الحديث عن أثر المقامات هذا، الذي يعترف به دارسون عرب وغربيون يأتي ذكرهم في غضون الكتاب، ربما كان أقوى أثر مفرد تركه العرب في الأدب الغربي، فعن طريق محتال المقامة قام الأدب الاحتيالي في إسبانيا وامتد من ثم إلى فرنسا وألمانيا وإنجلترا، ليكون الأساس لصرح الرواية الواقعية التي أسهمت في خلقها أقلام كتاب مرموقين من أمثال: ديفو وفيلدنج وديكنز في إنجلترا وليساج وبلزاك وفلوبير في فرنسا. بل لا تزال هذه الراوية الواقعية الاحتيالية موجودة بيننا في عملين محددين أولهما: "فيليكس ترول" لتوماس مان الألماني والثانية: "مغامرات أوجي مارش" للكاتب الأميركي: صول بيلو عبر شخصيات لا يمكن التغاضي عن كونها تبدو وكأنها طالعة مباشرة من المقامات.
رسوم الواسطي المساندة
على رغم أن فن المقامات فن عربي خالص لا يمكن العثور على ما يشبهه في اللغات الأخرى، وأنه يعتبر مع ذلك الوالد الشرعي لأدب القصة القصيرة، لم يكن كبيراً عدد المقامات التي أنتجت بلغة الضاد. بل حتى لا يمكن التوقف إلا عند أقل من نصف دزينة من المجموعات بدءاً من مقامات الحريري والهمذاني وصولاً إلى "حديث عيسى بن هشام" للمويلحي. بل إن التركيز يجري عادة على مقامات الحريري التي تعتبر الأكثر كمالاً بين كل ذلك النتاج. ولربما يميز أيضاً مقامات الحريري تلك الرسوم الرائعة التي حققها لها الواسطي الذي سيضع ثروت عكاشة عنه وعن رسومه، بالتالي عن المقامات نفسها دراسة مميزة في القرن العشرين. وتتسم تلك الرسوم بمزج الواسطي، الأرمني الأصل لتراث الفنون البيزنطية مع مواضيع مستقاة مباشرة من الحياة الاجتماعية واحتيالات العيش والمناخات شبه المسرحية التي تطبع نحو الخمسين مقامة التي كتبها محمد الحريري البصري في القرن السادس الهجري مؤسساً عبرها ذلك التعاطي الأدبي المدهش مع حقائق العيش المديني عبر مغامرات واحتيالات الحارث بن همام الذي سيكون نسخة من بطل مقامات الهمذاني الذي سيقيض له بعد مئات السنين شارح استثنائي هو الإمام محمد عبده الذي سيشرح بعد عودته من باريس وبيروت نحو أربعين مقامة اشتغل عليها منقحاً ولكن أيضاً "مهذباً"، إذ نراه يمحو العديد من المقامات متهماً إياها بالفحش!. ونعرف أن بطل مقامات الهمذاني هو أبو الفتح السكندري الذي يمارس من الاحتيال في المقامات التي وصلتنا ما يتفوق فيه على ما يمارسه الحارث في المقامات الحريرية، علماً بأن مقامات الهمذاني قد رتبت تحت أسماء تتنوع بتنوع الأمكنة التي تدور فيها وهي أمكنة تجوال أبي الفتح باحثاً عن المأكل والمأوى والمكانة في عالم يضن عليه بذلك كله حارماً إياه من أبسط مقومات عيشه، ما يضطره إلى أن يسعى ممارساً مواهبه في الغش والاحتيال بشكل يستبق فيه كبار متابعيه في الآداب الأوروبية كما يؤكد لنا الدكتور علي الراعي في تلك الدراسة الفذة والتي لخصت بل استبقت الكثير من الدراسات الحديثة التي تجعل من الحارث ومن أبي الفتح بطلين بيكاريين قبل الأوان.