لا نملك حتى الآن دراسات كافية حول الهوية المركبة للمسلم في المجتمعات الغربية. الدراسات القليلة الموجودة في هذا المجال لا تعكس سوى وجهة نظر غربية تمثّل المجتمعات المستوردة للمهاجرين، وليس البلاد المصدّرة لهم. وبالتالي فإنها في الغالب تتناول نظرية الاستيعاب الثقافي "Cultural assimilation "، وبعض النظريات الاقتصادية الأخرى المتعلقة برأس المال البشري واستمرارية التدفق وشبكات المهاجرين وغيرها من النظريات التي تصبّ في محيط استيراد المهاجرين وليس تصديرهم. وهي نظريات أيضاً لا تنظر للحالات الفردية بل الجمعية. هذه الدراسات تمنحنا نصف الصورة فقط في ظلّ إحجام الباحثين من الدول المصدرة للمهاجرين عن إكمال هذه الصورة بدراسات تمثل الزاوية الأخرى، ولم يقدموا من الدراسات سوى القليل الذي بين أيدينا الآن مما يكاد ينحصر في دراسات اقتصادية تتناول الأثر السلبي لاستنزاف العقول وهروبها، بما يلحق ذلك من ضعف التنمية وانخفاض الإنتاجية، والقليل جداً من الدراسات التي تتناول آثار الصدمة الحضارية العكسية لأولئك العائدين إلى ديارهم بعد هجرة طويلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لماذا تحتاج الدول المصدرة للمهاجرين إلى دراسات دقيقة تتناول مدى تعايش مواطنيهم وانسجامهم الثقافي مع مجتمعات الدول الأخرى؟ الجواب هو أن الهجرة بشكل عام ليست بالضرورة خسارة مطلقة للدولة المصدرة ولا ربحاً مطلقاً للدولة المستوردة. بل إن العديد من الدول المصدرة للمهاجرين تمكنت من مواءمة نظاميها الاقتصادي والاجتماعي بطريقة تحول الهجرة إلى قيمة مضافة وليس استنزافاً مفتوحاً.
فالمهاجر إلى بلادٍ أخرى يضع عن عاتق دولته الجهود الهائلة التي تحتاج إلى بذلها من أجل مساعدته على بلوغ مستوى إنتاجيته الأعلى، ويخفف الاحتقانات التنموية الناتجة عن البطالة وآثارها السلبية، بحيث تقوم الدولة المستوردة بهذه المهمة تعليماً وتدريباً. وبعد ذلك تجني الدولة المصدرة بعض الثمار التي تأتي على شكل تدفق أموال بعملاتٍ صعبة إلى الاقتصاد المحلي عن طريق حوالات مالية أو استثمارات عكسية.
والذي يظن أن هذه التدفقات المالية ليست ذات أهمية، عليه أن يراجع العدد الهائل من الأبحاث الاقتصادية التي تناولت هذا الأمر، مما يدل على كونه مورداً اقتصادياً لا يستهان به. ومن لا يملك الوقت لذلك يكفيه أن يعرف فقط أن حوالات المهاجرين تمثل عُشر اقتصاد دولة الفلبين. هذا يجعل الفلبين واحدة من أنجح الدول استثماراً في عمالتها الماهرة المدربة. واحدة من عوامل هذا النجاح الكبير هو قدرة المهاجر الفلبيني على الانسجام مع المجتمعات المستوردة اجتماعياً وثقافياً. هذا يعيدنا إلى مقدمة المقالة مباشرة: إن فهمنا للعوامل التي تؤدي إلى انسجام المهاجر المسلم مع المجتمعات الغربية قد تعود بثمار إيجابية على المجتمعات التي تصدرهم، بدلاً من أن يكون الأمر مجرد استنزاف للعقول بلا جدوى، وتكريس للحالة التنموية الأساسية التي دفعت بهم إلى الهجرة.
وليس الأمر متعلقاً بالحوالات المالية فقط، بل بثمارٍ أخرى يمكن أن تجنيها الدولة المصدرة، لعل من أبسطها عكس صورة إيجابية للدولة وتسويقها لجلب الاستثمارات والسياح. ويمكن أيضاً أن تسهم الجاليات المهاجرة في التأثير على القرار السياسي للدولة فيما يتعلق بعلاقاتها مع الدولة المصدرة. وقد يتحول المهاجر إلى وكيل تجاري يدفع بعجلة التبادل التجاري بين البلدين. ويمكن أن تؤدي الهجرة إلى تشكيل جسر معرفي ينقل التجربة الحضارية عكسياً إلى الدولة المصدرة. ولكن كل هذه الثمار لا يمكن أن تُجنى إلا إذا تحقق الحد الأدنى من الانسجام بين المهاجر ومجتمع الهجرة. ولعل ما يظهر لنا الآن أن المهاجر المسلم يكاد يكون الأقل قدرة على الانسجام مع هذه المجتمعات مع الاحتفاظ بهوية جمعية مميزة. الأمر الذي يستدعي دراسة هذه الحالة ومحاولة فهمها وعلاجها.