ربما لا يزال ميشال فوكو حتى اليوم بعد رحيله بنحو أربعة عقود، أشهر "فيلسوف" فرنسي من فلاسفة القرن العشرين، بعد سارتر طبعاً، في العالم أجمع. وحتى الأميركيون يرون ذلك؛ إذ يصدر عنه في الولايات المتحدة سنوياً، عدد من الكتب يفوق عدد ما يصدر عن أي فيلسوف أميركي مجايل له.
ومن هنا يبقى السؤال: من أين تأتي حقاً شهرة فوكو ومكانته هذه، وهو الذي اشتهرت نصوصه، بكونها عسيرة المنال، أي عسيرة القراءة، متشابكة، تكاد تكون مرتبطة تماماً بجذورها الفرنسية، حتى وإن كان بنيانها المفهومي ينتسب إلى نيتشه، الذي يعتبر كثر أن فوكو مكمله في النصف الثاني من القرن العشرين؟
صعوبة التفاصيل
ولعل الجواب الأول عن هذا السؤال، يفيدنا بأن شهرة فوكو تتأتي أصلاً من صعوبة الوصول إلى تفاصيل أطروحاته، في مقابل سهولة الوصول إلى ربط حياته بهذا الجوهر من ناحية، وسهولة الوصول إلى جوهر فكره القائم، أصلاً، على فكرة أساسية كان يمكن أن توسم بالفوضوية لولا ذلك الانتظام المدهش في فكره وفي أسلوب تعبيره عن فكره.
وهذه الفكرة هي باختصار، رفض السلطة، كل سلطة، سواء ارتبطت بدولة توتاليتارية قمعية، أو بدولة تحكم باسم الحق والقانون. بالنسبة إلى فوكو كل سلطة هي سلطة قمعية في شكل أو في آخر، وما كتبه المتتالية التي بدأ صدورها منذ نصف قرن ونيف، وواصلت الصدور بعد رحيله عام 1984، سوى تنويعة متواصلة على هذه الفكرة.
وهذه الفكرة نفسها كان فوكو أرهص بها باكراً في كتابه الأشهر "الكلمات والأشياء"، حين تعمد أن يضع تعريفاً لـ"الخطاب الكلاسيكي"، مفتتحاً بذلك سلسلة من التراتبيات الفكرية التي تشمل علوماً وضعية، مثل البيولوجيا والاقتصاد واللسانيات، قائلاً: "في معنى من المعاني، يهيمن على الإنسان ثلاثة أمور هي العمل والحياة واللغة؛ بحيث إن الوجود الملموس للإنسان يجد شروطه في هذه الأمور الثلاثة... وأيضاً بمعنى أنه لا يمكن التواصل مع الإنسان إلا عبر الكلمات والأشياء التي يتولى صنعها بنفسه واستخدامها بالتالي". وفي هذا الإطار يبدو الإنسان وقد اختفى تماماً بوصفه وحدة أونطولوجية، ولا يعود له من وجود إلا في "وضعية المعرفة"، ولكن كيف وصل الإنسان إلى هذه الحال؟
حرب فكرية!
هنا يدخل فوكو في التفاصيل أكثر، خائضاً حربه الفكرية ضد السلطة ولغتها وممارساتها. وهو ما كان تجلى لديه خاصة في واحد من أول وأهم كتبه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي". ففي سنوات الستين، وفي وقت كان فيه كبار المفكرين وأهم النزعات الفكرية يشتغلون لصالح فهم إنساني للدولة – السلطة وعلاقتها بالمجتمع، رأى ميشال فوكو باكراً، في ذلك الكتاب الذي صدر عام 1961 أن من الضروري رسم الخطوط الكبرى لهيمنة العقل على الجنون.
وهو في هذا الإطار حدد تاريخين أساسيين: عام 1557 حين جرى تأسيس "المستشفى العمومي" في فرنسا، وعام 1794، حين حرر أسرى مستشفى "بياستر". ويرى فوكو أن ما حدث خلال الفترة الفاصلة بين هذين التاريخين إنما هو استبعاد الأفراد المعتبرين مفسدين لـ"تناسق" المجموع الاجتماعي: المجانين أولاً، ثم أيضاً المتسولين والهامشيين والمجرمين والعاطلين عن العمل.
التخلص من المهمشين
إن مجتمع الرأسمالية الصاعدة، في رأيه، يرى أن أفضل طريقة للتخلص من هؤلاء إنما تكمن في استبعادهم، وتهميشهم وحصرهم، وسجنهم... طالما أن ذلك المجتمع يسعى إلى نجاحه عن طريق وجود بيئة "سليمة" "ناصعة"، "عادية، لا بد من تخليصها من كل ما هو "شاذ" فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى فوكو أن المعركة، إذا، لم تكن ضد الجنون نفسه، بل ضد كل ما كان يخرج عن إطار عقل المجتمع الكلي، الذي كان يبحث عن شموليته. وهكذا مقابل "العاديين"، اعتقل المجتمع "غير العاديين" و"غير الشرعيين" رامياً إياهم في المستشفيات العقلية والسجون. في عام 1963، أصدر فوكو كتابه "ولادة العيادة"، الذي اعتبر فوكو أن "موضوعه هو النظرة"، حيث إن الأمر يقوم، قبل أي شيء آخر في "وضع جردة لمجمل السلوكيات التي، في مجتمع معين، يجابه بها المريض ويبعده عن أهله ويعزله في مناطق مغلقة".
صورة ما لمؤرخ الجنون
ومن الموت والمرض إلى الجنس، خطوة كان لا بد لفوكو من أن يخطوها... وعلى هذا النحو كان في عام 1976 كتابه "إرادة المعرفة" الذي شكل الجزء الأول من "تاريخ الجنس" الذي لم يكتمل في ثلاثة أجزاء إلا في عام رحيل الكاتب.
والحقيقة أن هذا الكتاب كان الأكثر نيتشوية بين أعمال فوكو لأنه "وضع نهاية للنزعة الإنسانوية ونزعة الأخلاق الموروثة من أساتذة المدارس الابتدائية وتصرفاتهم الوعظية"، بل إن المركيز دي ساد يلوح هنا من خلال التقاطع بين ثنائي فوكو/ نيتشه.
ومع هذا، رأى كثر في ثنايا الكتاب نوعاً من العودة إلى الفرد الاجتماعي، ولو من خلال طرح بعض الإشكاليات الأخلاقية و"قضية الأخلاق". مهما يكن، فإن كثراً في المقابل، رأوا أن في الأمر التباساً ولد لدى فوكو في سنواته الأخيرة، ولكن من خلال انفتاح نيتشويته على توجه هايدغري (نسبة إلى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر) كان ماثلاً لديه دائماً ولكن بشكل كامن. ومن هنا إذا كان في الإمكان اختصار صورة فكر فوكو في سنواته الأخيرة فإنه لا بد لنا أن نستعين بالنظرة التي ألقاها جيل دولوز على "أستاذه"، وهي نظرة تقول إن آخر صورة لفوكو إنما كانت تشبه تماماً صورة مؤلف "تاريخ الجنون" قبل ربع قرن من ذلك "حيث إن فوكو وحتى أشغاله الأخيرة كان همه أن يضع الذاتية كوعي بالمبادئ الكونية، في تعارض مع نزعة 68 الفردية".
سيرة في محراب العلم
تقول لنا سيرة ميشال فوكو إنه ولد عام 1926 في مدينة بواتييه الفرنسية لأهل ينتمون إلى الوسط الطبي. وهو حين تحدث عن أيام طفولته وصباه لاحقاً، قال إنه تأثر أول ما تأثر في بداياته بمشهد اللاجئين الآتين من أتون الحرب الأهلية الإسبانية متدفقين هرباً إلى فرنسا.
ومن هنا فإن الاحتكاك مع المرض والبؤس والموت سيلعب دوراً بارزاً ومحركاً في حياته. ولقد كانت بدايات وعيه التالي إثر مقتل المستشار النمساوي دولفوس على يد النازيين ما ساهم في إشعال الحرب العالمية الثانية.
وفي عام 1945 بعد بداية شهدت اهتمامه بالأدب والعلم في آنٍ معاً، سيصبح فوكو العشريني، تلميذاً في ثانوية هنري الرابع، حيث درس الفلسفة لمدة شهر على يدي جان هيبوليت (أشهر الهيغليين في فرنسا في ذلك الحين)، لكنه في العام التالي سيصبح تلميذاً للفيلسوف الماركسي لويس ألتوسير. والحال أن تأثير هيغلية هيبوليت وماركسية التوسير لن يفارق فوكو طوال مسيرته التالية – وحتى من قبل اكتشافه لنيتشه وعمله على تطوير فكر هذا الأخير حول الدولة – أما مسيرة فوكو كمنتج للأفكار فسوف تبدأ نهاية الأربعينيات – بداية الخمسينيات – حين نال على التوالي إجازة الفلسفة ثم إجازة علم النفس المرضي.
أما كتابه الأول المهم فقد نشره عام 1954 بعنوان "المرض العقلي والشخصية"، وهو كتاب لفت إليه أنظار الأوساط المتخصصة، مستبقاً انتقاله في 1955 ليعمل أستاذاً محاضراً في جامعة أوبسالا في السويد، ومنها إلى بولندا، حيث حاضر وعمل في المركز الثقافي الفرنسي التابع لجامعة وارسو. ومن هنا انتقل إلى هامبورغ في ألمانيا، حيث أدار المعهد الفرنسي وانكب على ترجمة "الأنثروبولوجيا التجريبية" لكانت.
في رحاب الشهرة
في تلك الأثناء، كان ميشال فوكو قد بات معروفاً في الأوساط العلمية الأوروبية بشكل عام، بل صار شيء من شهرته متجاوزاً للحلقات الجامعية، خصوصاً أنه ما إن أطلت سنوات الستين حتى كان قد نشر الجزء الأول من كتابه الذي سينال شهرة كبيرة لاحقاً – "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي".
وهو كتاب رفضته منشورات "غاليمار" الفرنسية حين عرضه عليها، فنشرته دار "بلون". في ذلك الحين كان فوكو قد التحق بجامعة كليرمان – فران في الوسط الفرنسي، ومن ثم راحت كتبه تصدر تباعاً: كتاب عن ريمون روسيل (1963)، ثم "ولادة العيادة" (1966)، "الكلمات والأشياء" (1966 أيضاً) فـ"أركيولوجيا المعرفة" الذي كتبه خلال وجوده في تونس طوال فترة مهمة من حياته، ونشر في عام 1969.
وفي عام 1971 نشر ميشال فوكو "نظام القول"، ومن ثم نصاً حول الفنان ماغريت، قبل أن ينشر في عام 1973 كتابه "آنا بيار ريفيار إذ ذبحت أمي وأخي وأختي". وفي عام 1975 نشر فوكو كتابه "المراقبة والمعاقبة"، ثم "هركولين ياربين" و"فوضى العائلات" (الاثنان في عام 1982). وفي عام 1984، رحل فوكو عن عالمنا في وقت كانت فيه دار "غاليمار" تصدر الجزأين الثاني والثالث من كتابه الضخم "تاريخ الجنس"، الذي أصدر جزأه الأول في عام 1976 بعنوان "إرادة المعرفة".
لاحقاً بعد رحيل فوكو بسنوات، وفي وقت كانت فيه كتبه قد ترجمت إلى عدد كبير من اللغات، صدرت أربعة مجلدات ضخمة في عنوان جامع هو "أقوال وكتابات" تضمن في أكثر من ألفي صفحة عشرات النصوص والحوارات والتعليقات التي كانت قد نشرت متفرقة في صحف وكتب في شتى أنحاء العالم، وبلغات عدة.