كان سجالاً عبثياً ذاك الذي أطلقه السينمائي الأميركي من أصل أفريقي، سبايك لي، حين شن هجوماً إعلامياً على زميله كلينت إيستوود، متهماً إياه بالعنصرية والتمييز العرقي. كان ذلك حين عرض إيتسوود فيلمه الحربي الكبير "رايات آبائنا" عام 2006، منطلقاً فيه من تلك الصورة التي تعتبر الأشهر من بين الصور التي التقطت خلال الحرب العالمية الثانية في جبهة المحيط الهادئ، وتصور جنوداً أميركيين يرفعون علم بلادهم منتشين بنصر حققوه في جزيرة إيوجيما في طريقهم إلى احتلال اليابان، وإنهاء تلك الحرب.
كانت حجة سبايك لي في هجومه أن ليس ثمة ولا جندي أسود واحد بين جنود الصورة البيض كلهم. يومها على الرغم من انشغاله بإنجاز فيلمه التالي الذي سيأتي مكملا لـ "رايات آبائنا"، لم يسع إيستوود إلا أن يبتسم ساخراً ويذكّر بأنه حقق فيلماً عن صورة، والصورة حقيقية ومعروفة وليس فيها أي جندي أسود. طبعاً توالت ردود سبايك لي لكن إيستوود كان في واد آخر. كان ينجز "رسائل من إيوجيما" الذي يمكنه وحده أن ينقض كل ما يصفه زميله لي به، كما سوف نرى.
كيف تفيد خصمك؟
المهم أن السجال الذي سرعان ما صار من طرف واحد ولم يأخذه أحد مأخذ الجدية، أسهم بالتأكيد في إضفاء شهرة إضافية على فيلم إيستوود، ممهداً لاستقبال بديع سيكون من نصيب فيلم "إيوجيما" الذي تحدث بالتحديد عن الوجه الآخر من وجوه تلك المعركة نفسها، ولكن هذه المرة من وجهة نظر يابانية تتعامل مع الجنود اليابانيين، وربما لمرة نادرة في فيلم حربي أميركي، آخذة كونهم بشراً بعين الاعتبار، مستندة إلى نص ياباني عن دورهم في تلك المعركة التي سيبرزها الفيلم مشرفة لهم رغم هزيمتهم فيها. والحال أن ما لا بد من قوله هنا إن كلينت إيستوود كان في تلك المرحلة من مساره السينمائي والإنساني، قد بدأ خطه الصاعد على الضد من سمعته الماضية كـ "فاشي" مؤيد للعنف والقتل. ولئن كان من الصعب هنا أن نفترض أن "رايات آبائنا" هو ما أحدث ذلك التبدّل الجذري لديه، لا بد من أن نقول إن هذا الفيلم، على حربيته وعنفه، أتى تأملياً فلسفياً يؤشر إلى نمط تفكير جديد هاهو إيستوود ينضم إليه في هوليوود الجديدة.
مجرد صورة ولكن!
ومع ذلك فإن حكاية "رايات آبائنا"، كانت في البدء، حكاية صورة من أشهر ما التقطه المصورون خلال الحرب العالمية الثانية، مشغولة بعناية. مشهدها يحمل قيمة فنية لا تضاهى، ومع هذا لم تكن هذه القيمة الفنية ما أعطى الصورة شهرتها، في التاريخ الأميركي الحديث خصوصاً، وفي العالم، بل دلالتها الوطنية التي زاد من أهميتها حسن استخدام السلطات المعنية لها.
وقبل الحديث عن هذا، لا بد من التذكير بالصورة نفسها، إنها تلك التي تمثل قبضة من جنود أميركيين يرفعون فوق قمة جبل أجرد، في مكان ما من جنوب شرقي آسيا، راية الولايات المتحدة وسط ما يبدو أنه عصف ريح شديد. هذه الصورة اشتهرت خلال الشهور الأخيرة للحرب العالمية الثانية، كما اشتهر اسم ملتقطها جو روزنتال، الذي نال عليها في ذلك الحين جائزة "بوليتزر" لأفضل صورة صحافية. ومن حينه والصورة معلقة في ملايين البيوت الأميركية، وأضحت أيقونة حقيقية من النوع الذي لا يعود أحد يسأل عن حقيقته وعن ظروف ولادته.
أسئلة متأخرة حول أسطورة
وكان يمكن هذه "المسلّمة" أن تبقى هكذا، لولا أن كلينت إيستوود رأى ذات يوم أن في إمكان هذه الصورة أن تكون أساساً لفيلم كبير. وبالفعل، أعوام قليلة بعد ولادة الفكرة لديه، بدأ الفيلم يعرض في مدن كثيرة باسم "رايات آبائنا". ثم صار الفيلم فيلمين في الحقيقة، حين أنجز المخرج في العام التالي استكمالاً له بعنوان "رسائل من أيوجيما". ومنذ البداية يمكننا أن نتصور أننا هنا إزاء فيلم حربي، يتحدث عن فصل من فصول تلك المذبحة المرعبة التي دارت خلال النصف الأول من أربعينيات القرن العشرين في كل مكان من العالم تقريباً، والتصور طبعاً في محله، لكن الحرب نفسها ليست كل ما في هذا الفيلم الذي نعرف الآن أنه جزء أساس من مشروع شديد الطموح.
واقع أم "ميزانسين"؟
فكلينت ايستوود، راعي البقر ومفتش التحري القاسي السابق، منذ بدأ يخوض الإخراج السينمائي، ما أوصله طبعاً إلى أوسكار أحسن مخرج عن رائعته "طفلة بمليون دولار"، آلى على نفسه ألا يقدم مواضيع عادية، وهو ما يفعله هذه المرة أيضاً. ومن هنا فإن "رايات آبائنا" يتجاوز مسألة كونه فيلماً عن الحرب، ليطرح وسط التباسات قد لا تكون شديدة الحدة، مجموعة من المسائل التي تشغل بال كل فنان صادق ومجتهد. النجومية والحرب ومصير أبطال الحروب بعد انقضائها، ثم أخيراً مسألة الصورة نفسها. ولنتوقف هنا عند هذه المسألة الأخيرة بعيداً من السجالات حول الفيلم، والتوقف عند مسيرة صاحبه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السؤال الأساس الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو الآتي: هل هذه الصورة حقيقية أم مركبة، ناتجة من "ميزانسين" رسم بعناية ونفذ بدقة؟ هنا لا يجيب ايستوود بصراحة، إذ يصل الالتباس لديه إلى مستوى لم يعرفه عالم الدلالات في أي فيلم من أفلامه السابقة، لكن سياق الفيلم والطريقة التي وظفت بها الصورة، رسمياً، يفتحان الباب واسعاً على الاحتمالات كافة. ونحن نعرف أن السنوات الأخيرة، جاءت بكثير من ضروب إعادة النظر في لغة الصورة ومفهومها وصدقيتها، والمثال الأفصح على هذا كان في فرنسا، فبعدما كان الناس جميعاً يؤمنون لعقود طويلة بأن صورة دوانو الشهيرة "القبلة" صورة التقطها الفرنسي الشهير في باحة بلدية باريس، لعاشقين يتبادلان قبلة حقيقية احتفالاً بانتهاء الحرب، انكشف لاحقاً أن الصورة مركبة، والعاشقان ممثلان دفع لهما دوانو أجرهما ليقفا ويصورهما!
اقتراح لا أكثر
في "رايات آبائنا" ثمة اقتراح من هذا النوع، اقتراح يوحي بأن الصورة في الأصل مركبة، صنعت أصلاً، وبالأسلوب الفني الرائع الذي حققت به كي يمكن استخدامها دعائياً، من ناحية لرفع المعنويات العامة، ومن أخرى لجمع التبرعات من أجل المجهود الحربي، وليس ثمة في الفيلم تشديد واضح على هذا، فـ "رايات آبائنا" يلعب أساساً على الالتباس، لكن بداخله في المقابل استخدام اللوحة التي طبعت في ملايين النسخ ووزعت في كل البيوت، وفي رفقتها ثلاثة من الجنود الظاهرين فيها، وقد أعيدوا إلى الوطن إثر تحولهم، بفضل الصورة، أبطالاً قوميين من الباب الرفيع. يومها طلبت حكومة روزفلت من الجنود الثلاثة أن يقوموا بجولات جمع التبرعات، بحيث كان في وسع الشعب الأميركي أن يرى عن كثب أولئك الأبطال بفضل مئات اللقاءات التي حولتهم نجوماً، لكنها في الوقت نفسه نسفت حياتهم بأقصى مما فعلت الحرب نفسها برفاقهم الثلاثة الآخرين الذين كانوا أبقوا في الجبهة، أو هذا ما يشير اليه الفيلم على أي حال.
الحرب على جبهات عدة
نعرف الآن أن كلينت إيستوود الذي بنى فيلمه انطلاقاً من الصورة، استند في السيناريو إلى كتاب وضعه ابن واحد من الجنود، النجوم الثلاثة، جون برادلي، عما كان أبوه قد رواه له. والكتاب أتى ليروي، كما الفيلم لاحقاً، فصول حياة و"مغامرة" ذلك الأب ورفاقه. ومن هنا ينقسم العمل كله قسمين: قسم يدور داخل معركة إيوجيما نفسها، وآخر يقع في الأراضي الأميركية من حول جولات الجنود والصورة وجمع التبرعات والدمار النهائي لحياة كل واحد من الثلاثة.
ولئن جاء هذا القسم الأخير قاسياً، اتهامياً كما كان في زمنه فيلم "أجمل سنوات حياتنا" لويليام وايلر عن بؤس الجنود العائدين بعد انتصاراتهم ليجدوا حياتهم وقد تدمرت، جاء الآخر، القسم الحربي حماسياً بطولياً من النوع المعتاد في هذا الصنف السينمائي، والذي كان سبيلبرغ أوصله إلى ذروته في "إنقاذ المجند رايان". ولم يتنبه كثر لاحقاً حين عرض "رسائل من إيوجيما" إلى أن ثمة فارقاً كبيراً بين منطق الفيلمين: الأول مضيء وصور في مشاهد خارجية، فيما الثاني معتم تدور معظم مشاهده في الداخل، لكن هذا كان طبيعياً في منطق الفيلم: اليابانيون المدافعون عن الجزيرة، كانوا مرابطين في أغوار الأرض، داخل أنفاق ومغاور وكهوف، وذلك تبعاً لاستراتيجية دفاعية مدهشة رسمها قائدهم الجنرال كوريباياشي. ومع هذا سيغور إيستوود في أعماق الأرض كما في أعماق الذاكرة نابشا موضوع "القسم الثاني" من الفيلم، مستنداً الى نصوص رسائل حقيقية أرسلت من وإلى الجنود اليابانيين وهم محاصرون، لكن تلك حكاية أخرى قد نعود إليها.