على الرغم من أن الاستثمار الصيني في القارة الأفريقية يوصف في كثير من الأحيان بأنه يفتقر إلى الشفافية، إلا أن الواقع يقول إن بكين كانت في كثير من الحالات أحد المصادر الرئيسية للاستثمار في مواجهة نقص واضح في الإرادة من جانب دول العالم الأخرى في هذا المجال، وهذا بدوره عزز مركزية الصين في تنمية القارة التي تحتاج، بحسب التقديرات الأخيرة لـ"بنك التنمية الأفريقيِ" AFDB، إلى نحو 170 مليار دولار سنوياً لتطوير بنيتها التحتية والحفاظ على نموها الاقتصادي.
احتكار شبه دائم
وتشير المبادرات الصينية إلى مدى استعداد بكين لتحمل مزيد من المخاطر في الدول الأفريقية، ما مكنها من الحصول على احتكار شبه دائم ولا سيما في البلدان المضطربة من القارة والغنية بالموارد. ويمكن ملاحظة ذلك أيضاً في عدد من مشاريع البنية التحتية للصين في جميع أنحاء القارة. وفي كثير من الأحيان توصف تلك الاستثمارات بكونها "مصائد ديون". لكن المبادرات الصينية تظل في كثير من الأحيان الوسيلة الوحيدة للدول الأفريقية للحصول على بنية تحتية ذات قيمة اقتصادية، مع تنامي ضائقة الديون، وهو الثمن الذي يتعين على الحكومات الأفريقية دفعه.
وقد شكل وضع الديون المتفاقم في القارة الذي أسهم فيه انخفاض أسعار السلع العالمية، وتدني مستويات الضرائب، وميل الحكومات المتزايد إلى إصدار سندات "يوروبوند" (للأوراق المالية المقومة بالعملات الأجنبية التي عادة ما تتحمل معدلات فائدة أعلى من القروض)، من المؤسسات المالية الدولية أو شركاء التنمية. وهنا تبرز الصين، فعلى الرغم من أن شروط التمويل التي تضعها بكين مبهمة بشكل عام، فإن مبادرة الأبحاث الصينية- الأفريقية في جامعة "جونز هوبكنز" تقدر أن العملاق الآسيوي قدم 143 مليار دولار من القروض لأفريقيا بين العامين 2000 و2017، منها 80% على أقل تقدير من مؤسسات الدولة الصينية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفقاً لـThe Jubilee Debt Campaign ، وهي هيئة رقابة مقرها المملكة المتحدة، فإن 20% من إجمالي الديون الخارجية للحكومات الأفريقية مصدرها الصين، أي أكثر من نصف إجمالي الديون السيادية الأفريقية المستحقة للحكومات الأجنبية. وفي منتدى العام 2018 حول التعاون الصيني الأفريقي الذي عقد في بكين في سبتمبر (أيلول) الماضي، وضع الرئيس الصيني شي جين بينغ هدفاً للاستثمار وقرضاً بقيمة 60 مليار دولار إضافي لأفريقيا، ما يشير إلى أن تدفق التمويل من غير المرجح أن يتناقص في وقت قريب.
حمائية الاستثمارات الصينية
ولا يخفي اقتصاديون أفارقة، ومنهم الدكتور ليو أديني، رئيس "مجلس الأعمال النيجيري" في دبي ورئيس "نادي الأعمال الأفريقي" في لندن، امتعاضه مما سمّاها "حمائية الاستثمارات الصينية." ويقول إن تلك "الاستثمارات تخدم الصين في الدرجة الأولى وليس اقتصادات قارتنا"، ويضيف أن المشاريع والتمويلات الصينية لها تقليد في تفضيل المقاولين والمورّدين الصينيين وحتى الأيدي العاملة الصينية، وبالتالي لا تجد الاستثمارات والتمويلات الصينية مواطن عمل في الدول الأفريقية، ولا تدعم التجار والموردين الأفارقة، وبالتالي لا تخدم تلك الاقتصادات.
ويلقى الدكتور أديني باللوم على الحكومات الأفريقية ويدعوها إلى أن تكون أكثر صرامة في التعامل مع الاستثمارات الصينية. ويشير إلى أن "معظم حكومات القارة ترحب بمشاريع بكين كي تحافظ على مواقعها في الحكم عبر إقناع شعوبها بقدرتها على جذب أموال أجنبية مباشرة إلى أراضيها، مع وعود بأن توجد فرص عمل جديدة لمواطنيها، في ظل تزايد عدد السكان، حيث تشير التقديرات الدولية إلى أن عدد الشباب الذين سيدخلون سوق العمل في القارة سيتجاوز مجموع ما هو موجود في بقية العالم بحلول السنة 2050".
عدم ترحيب لأسباب عدّة
استراتيجية الصين الاستثمارية في القارة يبدو أنها تواجه مأزقاً حقيقيا. فاليوم يجاهر عدد من الساسة والشركات الأفريقية بعدم ترحيبهم باستثمارات الصين في دولهم. وعلى الرغم من تأكيدات بكين بأنها تتيح لأفريقيا الفرصة لتسريع تنميتها الاقتصادية القائمة على البنية التحتية التي تطورها هي، والاستفادة من التقنيات وفرص العمل وفرص السوق، قد يفاجئها عدم الترحيب هذا بدولة عظمى وضعت ثقلها في أفريقيا التي تقاعس العالم عن الاستثمار فيها على رغم مواردها الطبيعية والمائية والغذائية الهائلة، ناهيك بثروات النفط والغاز والمعادن الثمينة.
وكان مؤتمر القمة في بكين العام 2018 حول التعاون الصيني الأفريقي قد حدد أولويات بكين حتى السنة 2020. وانحرافا عن تقليدها المتمثل في مضاعفة تعهداتها المالية مرتين أو ثلاثا، ظل التزام الصين بالقارة الأفريقية كما كان عليه في العام 2015، في حدود 60 مليار دولار. وعلى الرغم من تنامي الاستياء من استثماراتها، بقي التزام بكين قويا. فبحسب شركة استشارات الأعمال العالمية (ماكينزي) لا تزال الصين تستثمر بثقل في بناء السدود والسكك الحديد والموانئ وشبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية. فقد ارتفع حجم استثماراتها في أفريقيا ما بين العامين 2000 و2014، من 2% إلى 55%. وبحسب تقديرات (ماكينزي) وفي ظل الوتيرة المتسارعة الراهنة، يُتوقع أن تتجاوز الصين المستويات الأميركية في حجم أستثماراتها خلال عقد من الزمن.
ويقول الدكتور الأمين حمادي، الخبير في شؤون غرب أفريقيا والقنصل العام السابق لجمهورية النيجر في دبي، إن "العطشان يقول.. الماء، وأفريقيا عطشى للاستثمارات نظراً إلى حاجتها لتطوير بنيتها التحتية ولمشاريع حيوية تساعد دولها على تحقيق النمو الاقتصادي"، ويرى أن "الاستثمارات الصينية لا تخدم سوى بكين ولا تفيد الاقتصادات الوطنية لبلدان القارة".
شروط جديدة للاستثمارات الصينية
ويضيف بأن "الشركات الصينية عندما تأتي بمشاريعها، فهي تستعين بأيدٍ عاملة صينية وليس أفريقية، وبالتالي لا تخلق فرص عمل للشباب الأفريقي في ظل مستويات بطالة عالية"، ويشير إلى أن تلك "الاستثمارات عادة ما تكون بمعزل عن المجتمعات المحلية، ولا تخدم المواطن الأفريقي الذي لا يشعر بطبيعة الحال بفوائدها".
ويوضح الدكتور حمادي أن "التجار الصينيين يعرضون منتجاتهم في الأسواق الأفريقية بأسعار منافسة وعندما يرون رواجاً كبيراً لها يحرصون على بيعها بأنفسهم، وبالتالي لا يوفرون فرص عمل للشباب الأفريقي. يضاف إلى ذلك العوائد التي يحققونها من استثماراتهم في تلك المشاريع، فلا تتم إعادة استثمارها في الأسواق الأفريقية بل ترسل إلى الصين".
ويدعو "حمادي" الحكومات الأفريقية إلى أن تكون أكثر صرامة في التعامل مع الصين وأيضا في طرح شروط الاتفاقيات التي توقعها معها. ويطالب بضرورة أن تفرض الحكومات الأفريقية شروطا تلزم الشركات الصينية التي تستثمر في أفريقيا بالاستعانة بالأيدي العاملة الأفريقية، وبالإبقاء على جزء من الأرباح التي تتحقق لإعادة استثمارها في مشاريع حيوية تخدم المواطن الأفريقي بالدرجة الأولى. ويرى أن "الاستثمارات العربية والأوروبية لم تستغل الحاجة الأفريقية كما تفعل الصين التي تستفيد من غياب التنافس في الأسواق الأفريقية في ظل شح الاستثمارات الآتية من مناطق العالم الأخرى".
وحضّ "حمادي" حكومات القارة على ضرورة التنبه للتجار الصينيين، في ما أسماه استغلالهم للموارد الطبيعية، ولا سيما المعادن الثمينة كالذهب والفضة. ويوضح أن "النيجر دولة غنية بالذهب، ولا يحتاج التنقيب عن المعدن الأصفر فيها لمعدات متطورة وآلات حفر وتكنولوجيا لاستخراجه. وقد استغل الصينيون حقيقة أن الذهب سلعة غير مسجلة ضمن قائمة السلع الرسمية التي تصدرها النيجر ما سمح بعمليات تصدير عشوائية للذهب كان المستفيد الأكبر منها التجار الصينيون بالدرجة الأولى وغيرهم من التجار من دول العالم الأخرى".
لا يختلف اثنان على أن الصين قد أسهمت في ولادة مشاريع عملاقة في القارة الأفريقية، لكن يبقى التساؤل قائماً، إلى أي مدى استفاد المواطن الأفريقي من استثماراتها؟ هل صبّت عوائدها في جيوب الفقراء من أهلها أم في جيوب الساسة؟ وهل صُممت تلك الاستثمارات لدعم اقتصادات دول القارة أم الاقتصاد الصيني؟