منذ صدور رواية كلاوس مان الأشهر "مفيستو" للمرة الأولى في عام 1936 في أمستردام حيث كان الكاتب الشاب ابن توماس مان الذي سينتحر لاحقاً في عام 1949 عن 43 سنة، لاجئاً، ثم لاحقاً في عام 1981 حين حقق الهنغاري شتيفن تسابو فيلمه الأكبر بالعنوان نفسه مقتبساً من تلك الرواية، انشغل الجمهور العريض بالرواية والفيلم إلى درجة أنهم كانوا قلة أولئك الذين تنبهوا في عام 1966 إلى تلك المحاكمة التي جرت في مدينة هامبورغ الألمانية ضد الرواية بعد سنوات عدة من رحيل كل المعنيين بها مباشرة، من كاتبها إلى "الموديل" الذي انبنت عليه الشخصية الرئيسية. والشخصية هي تلك الملقبة بـ "مفيستو" انطلاقاً من عاملين، أولهما أن تلك الشخصية كانت شخصية ترمز إلى ممثل حقيقي عاش حياته ولعب دوره على مسرح تلك الحياة بخاصة من خلال أدائه البديع لدور "مفيستوفيليس" في اقتباسات عدة لمسرحية "فاوست" لـ "غوته"، إلى درجة التصق الدور به فكان لقباً يصاحبه في حله وترحاله، ولكن ثانيهما وهو الأهم، أن الرجل اعتبر بأخلاقه وغدره وشروره شيطاناً حقيقياً يلائمه تماماً ذلك اللقب.
بين الحكاية العائلية والمحاكمة
لقد كان هذا كله حاضراً في أذهان المهتمين على أية حال، حين جرت تلك المحاكمة القضائية الأدبية التي تكاد تكون فريدة من نوعها وأدت يومها إلى الحكم بمنع تداول طبعة ألمانية غربية من الرواية. بيد أن المهم الذي يمكن أن نعود إليه اليوم والذي سهى كثيرون يومها عن التنبه إليه، هو الحكاية العائلية التي تقف وراء القضية برمتها. الحكاية العائلية المرتبطة مباشرة بالعلاقة الواقعية في الحياة بين الكاتب والممثل الحقيقي الذي تشير إليه الرواية وتدينه، فعلى الرغم من أن كلاوس مان سمى بطل روايته "هندريك هوفغن"، فإن كل الناس كانوا يعرفون أن هذه الشخصية إنما تخفي وراء شفافية بيّنة شخصية الممثل والمدير المسرحي غوستاف غروندغنز الذي عرفته الحياة المسرحية الألمانية خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الـ 20 وحتى بعد ذلك، وشهد ذروة تألقه خلال الحقبة النازية التي كُرم فيها وناصرها هو من دون أن يكون عضواً في الحزب النازي. ولقد جعلته تلك المناصرة التي ستصورها لنا الرواية حافلة بالنفاق والكذب، صاحب السلطة الكبرى في الحياة المسرحية الألمانية خلال الحقبة الهتلرية، لكنه، وهذا سيكون بعد الأحداث التي تصورها رواية كلاوس مان، سيظل يشغل مكانته ويمارس سلطته حتى بعد اندحار النازية، فهو في نهاية الأمر كان رجلاً لكل العصور كما يوصف أصلاً في الرواية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مهما يكن من أمر، لا بدّ أن نشير هنا إلى الأمر المهم في هذه الحكاية والذي مررنا به أول هذا الكلام حين تحدثنا عن "مسألة عائلية": ففي الحقيقة كان غروندغنز صهر كلاوس مان وزوج ابنة توماس مان خلال الحقبة التي سبقت وصول النازيين إلى السلطة ووقوف ذلك الفنان المسرحي إلى جانبهم. كان زوج إريكا شقيقة كلاوس ورفيقة حياته، ومن هنا كان واضحاً أن هذا الأخير إذ يسبر غور الشخصية ويكتب عنها يميزه دافعان، أولهما كراهيته الشخصية له والتي كان من شأنها أن تغذي موقفه منه في الرواية، وثانيهما معرفته الوثيقة به والتي تجعل وصفه له موثوقاً بالنسبة إلى كثيرين.
وهذه الحقيقة ينساها الناس عادة حين يستذكرون ذلك العمل الأدبي الكبير الذي حقق نجاحاً كبيراً منذ ظهوره للمرة الأولى وظل على الدوام يعتبر صورة صادقة لكيفية تعامل شرائح من المثقفين الألمان مع النازية، بالتالي تعامل كثيرين من مثقفين من كل أنحاء العالم وفي كل الأزمنة مع نازييهم وفاشييهم المحليين، وذلك بالنظر إلى الأبعاد النفسية التي أسبغها الكاتب على الشخصية وراح يحللها.
بعض "الظروف المخففة"
ويقينا أن تلك التفاصيل التي تتخذ سمات عامة من خلال رسم شخصية خاصة، لعبت دوراً لا بأس به في المنع الذي طاول الرواية في عام 1966 حين، بعد موت "موديلها" الأساسي غروندغنز بفترة يسيرة أقام ابنه بالتبني ووريثه الشرعي المدعو بيتر غورسكي تلك الدعوى التي طالب فيها بحظر الرواية. لقد كان له يومها ما أراد، بل إن المحكمة الدستورية الألمانية الاتحادية أكدت الحكم عام 1971 فظلت الرواية ممنوعة من التداول، لكن مفعول الحكم كان كالعادة عكسياً إذ راح ملايين القراء يتداولون طبعة لها كانت صدرت في ألمانيا الشرقية ولم يتمكن أحد من منعها.
ولاحقاً لم يسرِ المنع على الفيلم بل استفاد من الضجة التي تجددت من حوله وحول الحكم القضائي في حققها، وبهذا حقق كلاوس مان انتقامه لأخته إريكا مرات متكررة. كما لا تزال الرواية تعتبر حتى اليوم من أبرز الأعمال الإبداعية التي تصدت للعقل النازي باكراً. ومع ذلك ثمة كثيرون بين النقاد يلومون الكاتب على كونه قد تساهل بعد كل شيء مع الشخصية التي رسمها، ففي لحظات كثيرة من الرواية لم يتوان كلاوس مان عن تصوير مشاهد يستغل فيها بطله المسمّى "هوفغن" علاقاته لمساندة العديد من أصدقائه المضطهَدين والملاحقين منقذاً إياهم من البراثن النازية بفضل نفوذه وتقربه من كبار المسؤولين بمن فيهم غورنغ وغوبلز. ويرى البعض أن "صدق" مان في تصوير تلك المشاهد، على قلتها، هو ما جعل صهره السابق يسكت عن الرواية على الرغم من إدانتها له، خلال سنواته الأخيرة وهو ما لم يستسغه ابنه بالتبني فيقيم تلك الدعوى التي بقدر ما ربحها شكلياً خسرها في المضمون إذ لعبت ذلك الدور الكبير في إعادة الرواية إلى الواجهة.
أصل الحكاية
ولنعد هنا إلى الرواية وحكايتها التي تقول لنا إن "هندريك هوفغن" (غروندغنز في الحقيقة) هذا كان معروفاً جداً في ألمانيا، هو الذي بدأ حياته فناناً تقدمياً يقدم في مدن الأرياف ثم في المدن الكبرى أعمالاً يكتبها بنفسه، كان أشهرها مسرحية عن ممثل انتهازي عاش في القرن الـ 19، وكان هذا من الانتهازية إلى درجة أنه بعدما كان جمهورياً تقدمياً، أوصلته انتهازيته إلى الارتماء في أحضان السلطة، قبل أن ينتهي في زنازين شارل العاشر. والحال أن غروندغنز، حينما كتب هذه المسرحية ومثّلها على عشرات الخشبات لم يكن يعرف أن مصيره هو سيكون على ذلك الشكل، وأن انتهازيته هو الآخر ستوصله إلى أحضان هتلر.
ومن هنا، لاحقاً، حين راح يشتغل ماضيه النازي ضده، راح يسعى بعد هزيمة هتلر للتبرؤ من النازية، وقال عنه خصومه إنه "كتب سيرته مسبقاً بنفسه في مسرحيته المبكرة تلك". المهم أن كلاوس مان، الذي عرف ذلك الممثل عن قرب، بل كان ذات حقبة صديقاً له، اتخذه في روايته التي سماها "حكاية مسار مهني"، أنموذجاً لجمع كبير من فنانين وأدباء تحلقوا حول النازية حال انتصارها في شكل انتهازي، راسماً مصيرهم. وبالنسبة إلى كلاوس مان، كان ذلك المصير متجسداً حقاً في "مفيستو"، ومن هنا، حينما كان كلاوس يُسأل عما إذا كان حقاً كتب عمله عن حياة غروندغنز، كان يقول: أبداً، روايتي رواية عامة تقدم أنموذجاً رمزياً، ولا تتحدث عن فرد معيّن من الناس. لكن النقاد والقراء لم يروا أبداً رأيه، وهكذا، حتى بعد أكثر من ثلث قرن على كتابة الرواية (1936)، أي في آخر السبعينيات حينما حقق المجري شتيفن تسابو، فيلمه المميز انطلاقاً من هذه الرواية، تحدث الناس من جديد عن غروندغنز، باعتباره الشخص الحقيقي الذي يختفي خلف بطل الرواية "هندريك هوفغن" الملقب "مفيستو".
افتتان الكاتب بالشخصية
ومن الواضح أن كلاوس مان (1906-1949) كان في نهاية الأمر مفتوناً بهذه الحكاية الفاوستية التي كانت هي ما فتنه، هو الذي مرّ في دنيانا هذه سريعاً واحترف الأدب باكراً على خطى أبيه (توماس) وعمه (هاينريش) اللذين كانا من كبار أدباء ألمانيا في الجيل السابق عليه، وكل منهما على طريقته. وكلاوس (الذي سيموت كما أشرنا منتحراً عام 1949) كانت له هو الآخر طريقته وتقوم في استخدام اللغة الإبداعية لفضح النازية ونزولها، حتى بأبنائها، إلى جحيمهم. وللتعبير عن هذا، وجد كلاوس في حكاية الممثل غوستاف غروندغنز (1899-1963) موضوعاً صالحاً، حتى من دون أن يسميه في روايته بل يكتفي بأن يعطيه اسماً ذا دلالة هو "مفيستو".