ببطء وصمت تام، تشق قافلة محملة بالأدوية والمعدات الطبية تجرها الأحصنة والبغال، طريقها في جبال شمال شرقي أفغانستان تغطي قممها الثلوج. كان ذلك مشهداً التقطته عدسات الكاميرات التي وثقت جهود بعض من الأطباء والممرضين الفرنسيين عام 1986، عملوا على إيصال الإمدادات الطبية أثناء الحرب.
ومع أربعة أطنان من الأدوية والمعدات، كان على هؤلاء المتطوعين إنشاء مستشفيين ميدانيين لمنظمة "أطباء بلا حدود" تحت أنظار الحكومة الأفغانية والقوات السوفياتية المحتلة.
وأصبح عمل المنظمة في وديان بدخشان أو بانجشير تحت قصف طائرات "ميغ" السوفياتية جزءاً أسطورياً من تاريخها الممتد 50 عاماً.
وقالت ممرضة التخدير الفرنسية رجيس لانساد، البالغة من العمر الآن 65 عاماً، "تمكنا من ممارسة الطب في ما كان في ذلك الوقت صحراء صحية وبلداً في حال حرب".
والمشاهد التي صورتها رئيسة بعثة "أطباء بلا حدود" في أفغانستان، جولييت فورنو، على مدى عقد، أُدرجت في فيلمها الوثائقي لعام 2006 "تحت سماء مفتوحة".
التوجه إلى أفغانستان
وتوجهت فرق المنظمة للمرة الأولى إلى أفغانستان بعد وقت قصير من غزوها في عام 1979 من قبل القوات السوفياتية، مما أدى حينها إلى فرار جماعي كبير للأفغان باتجاه باكستان المجاورة هرباً من القمع.
وخلال أسابيع، تجمع مليون لاجئ في المناطق الحدودية القبلية، وجهزت "أطباء بلا حدود" طاقمها لمد يد العون إلى أفغانستان، ولكن كان عليها أن تفعل ذلك سراً لأن المنظمة كانت محظورة من حكومتي إسلام أباد وكابول.
وقال رئيس المنظمة في ذلك الوقت، كلود مالوريه، "لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لنقرر" الذهاب، مشيراً إلى أنها تأسست لتقديم الرعاية الطبية إلى كل من يحتاجها.
فورنو أشارت بدورها، وهي أيضاً من الرائدين في المنظمة غير الحكومية، إلى أن الأمر كان محل نقاش. وقالت لوكالة الصحافة الفرنسية، إن "منظمة أطباء بلا حدود كانت متحفظة بدرجة كبيرة لأسباب أمنية".
مع ذلك، رأت وطبيب فرنسي كان يقود البعثة أن ذلك ممكن، باعتبار أن معظم أنحاء أفغانستان تم تحريرها، مع سيطرة السوفيات فقط على البلدات والطرق الرئيسة، بحسب ما ذكرت. وأضافت، "كان الأفغان بحاجة لمساعدتنا وكانوا على استعداد لمرافقتنا".
التحديات والتخطيط
وبعد اتخاذ القرار، أصبح التخطيط الآن أمراً ضرورياً ولكنه مليء بالتحديات.
وقالت فورنو التي أمضت مراهقتها في أفغانستان مع والدها المهندس، "كانت الخدمات اللوجستية بمثابة صداع كبير. تطلبت كثيراً من الوقت". وأوضحت، "كان علينا بناء شبكة من الأشخاص الموثوق بهم، والذين يمكننا الاعتماد عليهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان لا بد من شراء الخيول والبغال وتجهيز المعدات واتخاذ القرارات بشأن من سيذهب مع الفريق، إذ تحتاج كل مهمة إلى أشهر عدة من التخطيط والتفاوض.
وأخيراً، انطلق الفريق من بيشاور في شمال باكستان.
وتستذكر الممرضة لانساد ما حصل قائلة، "عبرنا الحدود ليلاً في أكثر نقطة سرية. أمضينا شهراً في السير عبر خمسة أو ستة ممرات جبلية على ارتفاع يراوح بين 4000 و6000 متر". وأضافت، "عند الممر الأول كنا نلهث. ومع وصولنا إلى الأخير أصبحنا نركض".
ووضعت أسس المستشفى الميداني الذي توجب أن يكون قادراً على العمل بشكل مستقل، أحياناً لمدة عام، وكانت الحاجات الصحية ضخمة في مناطق لم تستقبل طبيباً لأعوام.
وقالت فورنو، "كان بعض المرضى يسافرون على الأقدام أو على ظهور الجياد لمدة 10 أيام للوصول إلينا".
التزام الصمت
وعالجت "أطباء بلا حدود" جروح الحرب لكل المسلحين المتشددين والمدنيين، في ظروف صعبة للغاية في بعض الأحيان، كما عالج عناصرها الأمراض الأخرى، في حين قدمت الموظفات رعاية أمراض النساء والتوليد ورعاية الأطفال أيضاً.
وفي ذلك الوقت، بلغ معدل الوفيات امرأة من كل سبع أثناء الولادة، وطفل من كل ثلاثة قبل سن الخامسة، وظل الأمن مصدر قلق دائم.
وذكرت فورنو، "كنا تحت مظلة الجماعات القبلية أو الأحزاب السياسية لضمان حمايتنا". وأردفت، "لم نكن محايدين، ولكن كان من المهم أن نكون غير منحازين لإظهار أننا نهتم بالجميع".
ولفتت إلى أنهم قرروا في البداية التزام الصمت وعدم التحدث علناً ضد السوفيات، معتقدين أن الحذر سيساعدهم في أن يصبحوا أكثر مقبولية.
لكن في عام 1985، تعرضت إحدى الفرق للهجوم، على قولها، لذلك "أنهينا الصمت لأنه لم يعد يحمينا".
وإبان تلك الفترة، لم يغطِ سوى عدد قليل من الصحافيين الحرب في أفغانستان، ولذلك عندما قدم موظفو المنظمة شهاداتهم عما كان يحدث على الأرض، لم يمر الأمر مرور الكرام، وتمت دعوة قادتها للتحدث علناً، بما في ذلك أمام الكونغرس الأميركي.
انطباع مختلط
وعلى مر السنين، انسحبت "أطباء بلا حدود" من أفغانستان مرات عدة بعد تعرضها لهجمات، لكنها عادت لاحقاً.
واليوم، مع قيام الولايات المتحدة بسحب قواتها المتبقية من البلاد، فإن الانطباع عن جهود المنظمة هناك مختلط بشكل عام.
وفي عام 2015، دمرت غارة جوية أميركية مستشفى تابعاً لـ "أطباء بلا حدود" في ولاية قندز الشمالية، قتل فيها 42 شخصاً.
والعام الماضي، هاجم مسلحون جناحاً للولادة في مستشفى في كابول كانت تديره المنظمة، فقتلوا 16 امرأة.
وذكر رئيس البعثات في الفترة من 1997 إلى 2016، إيمانويل ترونك، "تُظهر هذه الأحداث المأساوية أن وجود منظمة أطباء بلا حدود في أفغانستان كفاعل طبي وإنساني إلى جانب السكان لم يكن سهلاً أبداً".
وتوضح فورنو أن الجهود التي بذلت خلال الاحتلال السوفياتي تمثل الفترة التي يستذكرها كثيرون حينما كانت فرق "أطباء بلا حدود" تعالج ما يصل إلى 10 آلاف مريض شهرياً. وأضافت، "الشهادة على الحقيقة كانت أمراً جوهرياً".
وقالت لانساد إن الأفغان في ذلك الوقت شعروا بأن الأطباء الفرنسيين هم الأجانب الوحيدون الذين يساعدونهم.
مهمة تم إنجازها
وفي حين تبدو صورة الأطباء على ظهور الخيل في الجبال الأفغانية جذابة، تشير فورنو إلى أنه على أرض الواقع لا يوجد شيء "رومانسي" في المسألة. وأوضحت، "كان الأمر خطيراً ومررنا بأوقات عصيبة".
وإذا كان البعض يشعر بالحنين إلى ما يسمى "العصر الذهبي" لأعمال الإغاثة، فإنها تفضل التفكير فيه على أنه مهمة تم إنجازها وحسب.
وقالت "خلال 10 أعوام ذهب أكثر من 500 متطوع إلى أفغانستان، وعادوا جميعاً إلى وطنهم مرة أخرى".
ولا تزال "أطباء بلا حدود" تمد يد العون لضحايا الزلازل والمجاعات والأوبئة والنزاعات وغيرها من الكوارث بعد 50 عاماً من مساعدة المحتاجين للرعاية الصحية، وبات لديها نحو 100 عملية في حوالى 75 بلداً.
وفازت المنظمة بجائزة نوبل للسلام عام 1999، مما مكنها من تمويل حملة لتوسيع نطاق الوصول إلى الأدوية لعلاج أمراض المناطق المدارية أو الإيدز.
ولديها اليوم 25 قسماً وطنياً تضم 61000 شخص، ثلثاهم منتشرون ميدانياً، وتبلغ موازنتها السنوية حوالى 1.6 مليار يورو (1.9 مليار دولار)، مصدر 99 في المئة منها تبرعات خاصة.
وتعقد "أطباء بلا حدود" جمعيتها العامة من 10 إلى 13 يونيو (حزيران) الحالي، في عام تحتفل فيه أيضاً بالذكرى الـ 50 لتأسيسها، تزامناً مع تغير الممارسات وتزايد الحاجة إلى المساعدات، بينما يتم إعاقة الوصول إلى المحتاجين في كثير من الأحيان، ويتعرض المتطوعون لخطر الهجمات الإرهابية.