إنها ليست لحظة من أكثر لحظات "سلاي" (لقب سيلفستر ستالون) إبهاراً على الشاشة. يسير خائضاً في شارع نيويوركي مزدحم، ويبدو ماكراً إذ يفتعل اصطداماً برجل مهمل المظهر يمشي في الاتجاه المعاكس. ينشل محفظة نقود الرجل. يقوم الأخير بالجري وراءه. يركضان عبر متنزه "سنترال بارك". الرجل في منتصف العمر، مهمل المظهر، ويلهث بعصبية. إلا أنه يتمكن من الوصول إلى سلاي، فينقض عليه ويهدده بالضرب إن لم يعد إليه محفظته في الحال. يمتثل سلاي خاضعاً.
ونجم أفلام "روكي" و"رامبو" المستقبلي هذا يكاد يكون الشخصية الوحيدة في تاريخ السينما التي تتمكن من الحلول بالمرتبة الثانية في القتال بعد الشخصيات التي أداها جاك ليمون Lemmon. الفيلم الذي نتناوله هنا هو "سجين الجادة الثانية" (1975) The Prisoner of Second Avenue، المستند إلى مسرحية كتبها نيل سايمون عن شخصية رجل قلق بمنتصف العمر، يعيش في مانهاتن. وسيلفستر ستالون، الذي سيبلغ سن الـ75 بعد نحو شهر، كان بنى مسيرته كممثل سينمائي على أساس بنيته الجسمانية. إنه "الفحل الإيطالي" Italian stallion، بحسب اللقب الذي حمله الملاكم الذي أدى دوره في سلسلة أفلام "روكي"، وها هو في ذاك الفيلم المبكر بمسيرته (سجين الجادة الخامسة) يتلقى الضرب من أقوى وأشد ممثل ضئيل الجسم بين أبطال هوليوود.
على أن تلك النكسات والمهانات تعد جزءاً من أسطورة ستالون. كما أن سبب تعلق الجمهور السينمائي به طوال نحو 50 عاماً يعود إلى كونه شخصاً عادياً حقيقياً، إذ عندما يطرح أرضاً، لا يلبث أن ينهض من جديد. وستالون لم يكن يوماً ممثلاً موهوباً على نحو خاص. هو ليس وسيماً بمستوى وسامة كاري غرانت، فيمكنه إبهار الجمهور بمجرد حضوره. ومن النادر أن يفوز بجوائز تمثيل، على الرغم من أنه انتخب مرة "الممثل الأسوأ خلال عشرة أعوام" لأدواره التمثيلية في أفلام الحركة بالثمانينيات. كما لا يتمتع الرجل بموهبة كافية لأداء الأدوار الكوميدية، وخياراته التمثيلية تبقى ضيقة. إنه غير مفاجئ ومتثاقل على الشاشة، ومعروف بدور "روكي بالبوا"، البطل في حلبات الملاكمة، بيد أنه أيضاً واحد من أكبر نجوم السينما في حقبته وأكثرهم استمرارية، إذ إنه يتمتع بحضور احترافي ليس بوسع الممثلين الأمهر والأفضل منه إلا حسده عليه. وهو يكتب وينتج العديد من أفلامه. الصعوبات والمحن لا تخيفه أو تثنيه أبداً. إنه مثل صبي (على الشاطئ) تلقى صفعة رمل على وجهه، لكنه سارع إلى "السيد المحيط" (إلى المياه كي يغسل وجهه).
"حادثة مبضع (جراح) حين ولادتي، أدت إلى شل الأعصاب الحركية في جانب وجهي الأيسر، فجعلتني بفم مُلتوٍ وعين متهدلة وطريقة النطق هذه التي أشتهر بها"، يكتب ستالون بأسلوب صريح مباشر في مؤلفه عن كمال الأجسام الذي يحمل عنوان "سلاي يتحرك: برنامجي المجرب لفقدان الوزن وبناء القدرة واكتساب قوة الإرادة وعيش الأحلام" Sly Moves: My Proven programme to lose weight, build strength, gain will power and live your dream، فهو لم يكن ضخم الجسم ولا وسيماً. وحين كان ولداً في حي "هيلز كيتشين" (مطبخ الجحيم) النيويوركي، تعرض للمضايقات والسخرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نشأ الفتى الأخرق والمنبوذ هذا مؤلهاً نجوم السينما، أمثال بطل كمال الأجسام السابق، ستيف ريفز، الشهير بأدائه دور "هيركليس" (هرقل). وقد أسست والدته صالة رياضية، حيث أمكنه الشروع من تلقائه بالتمرن على الأثقال. وسرعان ما ظهرت العضلات (في جسمه)، لكن الأدوار التمثيلية لم تبرز. ففي بداية مسيرته كان ستالون يتقدم باستمرار لأداء الاختبارات التمثيلية. بيد أنه كان يرفض على الدوام، أو في أحسن الأحوال كان يستهزأ به، فيحظى بنتف أدوار. أقرب مرة بلغها من تحقيق دور استثنائي مبكر في مسيرته كانت حين أدى مشهد نشل وودي آلن بعربة المترو، في فيلم "بناناس" (موز) (1971) Bananas، وأيضاً حين لعب دور طالب ثانوية متمرد يرتدي سترة جلدية في فيلم "أسياد فلاتبوش" (1974) The Lords of Flatbush. وهو لا يحب كثيراً تذكر هذا الأمر، إلا أنه أيضاً أدى بطولة فيلم "بورنو" [إباحي] خفيف، متدني الموازنة الإنتاجية، عنوانه "الحفلة عند كيتي وستود" (1970) The Party at Kitty and Stud’s، ثم استبدل عنوانه فيما بعد إلى "الفحل الإيطالي" Italian Stallion للاستفادة من نجاح وشهرة "روكي".
بين فواصل الأدوار التمثيلية السينمائية التي راح يؤديها بين فيلم وآخر، كان ستالون يعيش بفضل مجموعة من المهن الغريبة، بدوام جزئي، وهي تضمنت "كل شيء"، كما عبر لاحقاً، من "تنظيف أقفاص الأسود في حديقة الحيوانات" إلى "قطع رؤوس الأسماك" (في متاجر بيع السمك)، وذاك كله كان بمثابة تهيئة مثالية لإنجازه المفارق، أي "روكي"، الذي حققه حين بلغ سن الـ30 تقريباً، بعد سنوات من المراوحة وعدم تحقيق أي تقدم ملحوظ.
قصة كيفية تمسك ستالون ببطولة الفيلم (روكي) غدت منذ ذلك الحين جزءاً من فولوكلور هوليوود الحديثة، فهو رفض بيع سيناريو الفيلم، الذي قال إنه كتبه في "نوبات احتساء قهوة متواصلة" على مدى ثلاثة أيام، إلا إذا قام بأداء دور "روكي" بنفسه. وحقيقة عدم كونه ممثلاً مرموقاً آنذاك بدت غير ذات أهمية. فقد رأى أن شخصية ذاك الملاكم، كبير السن نسبياً، تمثل انعكاساً لذاته هو، في المرآة القريبة.
وعن هذا الأمر كتب فيما بعد "طالما قلت إن روكي يمثل شبه سيرتي الذاتية. فأنا كوني نشأت في الشوارع تعرفت على ملايين الأشقياء. أعرف ماذا يأكلون، وأين يعملون، وكيف يفكرون. وأهم من كل شيء، فهمت أحلامهم المحطمة. أنا امرء كان على منذ البداية بناء حياتي من الصفر".
إنها حكاية أميركية كلاسيكية من حكايا الترفع من الفقر المدقع إلى الثراء، وهي تمضي بعيداً جداً في تفسير جاذبيته بالنسبة للجمهور، إذ إن أفراد هذا الأخير، خصوصاً الذكور ممن هم في مقتبل العمر، وجدوا سهولة كبيرة في التماهي معه. وحين غداً نجماً، بدا كأنه يعيش حلماً نيابة عنهم.
هذا لا يعني أبداً أن ستالون في الحقيقة كان على الدوام ذاك الشخص العادي البريء، الذي أحب التظاهر به، إذ بوسعه أيضاً أن يكون مناوراً وعديم الرحمة. خلال العمل على "روكي" فإنه بالتأكيد لم يظهر أي حرج في استعارة فصول من الحياة الحقيقية للمغامر وملاكم الوزن الثقيل، تشاك ويبنير، الملقب بـ"بايون بليدر" والذي اشتهر أنه كاد يبلغ مستوى محمد علي (كلاي) في تجربته.
وقد قام ويبنير في النهاية برفع دعوى على ستالون. وروايته (ويبنير) عن علاقتهما ("28 سنة من الاحباطات والمصافحات ونكث الوعود" 28 years of frustrations, handshakes and broken promises) تصور النجم (ستالون) بطريقة مختلفة تماماً عن صورة المستضعف المقدام، التي تحبها فيه جماهير المعجبين.
في الأعوام الـ45 الأخيرة عمل ستالون مع الكثير من أقوى منتجي هوليوود وأكثرهم شهرة. عقده مع مدير "كانون" Cannon مناحيم غولان لفيلم "فوق القمة" Over the Top، الذي أدى فيه دور سائق شاحنة وبطل في "لي الأذرع"، قيل أنه كتب مبدئياً على ورقة محارم. وقد عمل على أفلام الـ"ذا إكسبانديبلز" The Expendables مع صاحب الشخصية المتقلبة والحادة آفي ليرنر، الذي ساهم في إحياء وتنشيط تجربته.
في أواخر التسعينيات عندما واجهت أفلام الحركة التي مثلها انتقادات الكتاب والمراجعين، سعى ستالون لاكتساب بعض احترام النقاد عبر أداء دور "شريف" في نيوجيرسي (قائد في شرطة) يعاني وهناً في الحركة وضعف السمع، بفيلم "كوبلاند" (1997) Cop Land لجايمس مانغولد. وهو ظهر إلى جانب روبيرت دينيرو وهارفي كيتيل. مدير "ميراماكس"، هارفي وينشتاين، الذي كان المنتج التنفيذي في هذا الفيلم قال عن ستالون "اعتبرت على الدوام أنه ممثل مذهل اتخذ بعض الخيارات السيئة". من جهته قال النجم لصحيفة "نيويورك تايمز" عن ظهوره في "كوبلاند" إنه (بمثابة) "تطهر وتنقية وإعادة الروح لشغفي في صنع الأفلام". وبالفعل، فقد بدا الأمر (أمر مشاركته في ذاك الفيلم) كأنه "حقنة" سينمائية (بعثه من جديد).
ولكي يحصل ستالون على ذاك الدور في "كوبلاند" فقد تنازل عن أجره المعتاد في هكذا أفلام، الذي يبلغ 20 مليون دولار أميركي. استقبل أداؤه في "كوبلاند" بالترحاب، بيد أن الفيلم حقق أرباحاً عادية (وقد أصلحه وينشتاين بأسلوب القص المعروف الذي عرف بـ"هارفي سيسورهاندز"). وفي الآونة الأخيرة قال مخرج الفيلم، جايمس مانغولد، لنشرة "إندي واير" Indiewire التجارية إن عشاق "روكي" و"رامبو" لم يعجبهم "كوبلاند" لأنه لم يحتوِ على التشويق والحركة المتوقعين، أما عشاق السينما فقد تجاهلوا هذا الفيلم بسبب وجود ستالون فيه.
واستكمالاً، يبدو أن النجم كان محكوماً عليه مواصلة تكرار نفسه، إذ يمكن للجمهور أن يقبله في دور "روكي"، أو في دور المصدوم من حرب فيتنام، والمقاتل السابق بها، "رامبو"، لكن لا شيء آخر. وقد يكون بعض أفلام الحركة التي مثلها أخفق ولم يحقق أرباحاً كبيرة في شبابيك التذاكر، إلا أن أسوأها حتى، ما زال يحقق الأرباح عبر سوق الفيديو المنزلي. كذلك كان ثمة فترة في الثمانينيات إذ بدا ستالون أكثر انشغالاً في إثبات أنه أعلى مقاماً بالنجومية من منافسه اللدود، أرنولد شوارزينيغر، بدل أن يقوم بتوسعة احتمالاته كممثل سينمائي.
واليوم، إذ يشرف سيلفستر ستالون على سن الـ75، فإن جعبة نتاجاته السينمائية ما زالت، وعلى نحو غريب، أقرب إلى نتاجات "بيتر بان" Peter Pan. ففي الوقت الذي يقوم فيه مجايلوه النجوم بالتنعم بقضاء أوقاتهم في فندق "ذا بيست إكزوتيك ماريغولد هوتيل"، أو يؤدون أدواراً يعاركون فيها تداعيات تقدمهم في السن، فإن هذا السبعيني ما زال يصنع أفلاماً تتطلب حركة وجهوداً صبيانية. الأمر يبدو وكأنه عالق في حقبة من العمر تتحكم به فيها هرمونات التستوستيرون، فتمنعه من النضوج، إذ إنه الآن منخرط في فيلمين تجاريين جديدين، سيكونان جاهزين للإطلاق في وقت لاحق هذا العام. فيؤدي البطولة في "السامري" Samaritan لاعباً دور بطل خارق عجوز مجعد الوجه، تعود إليه قدراته الخارقة بعد اختفائها لـ20 عاماً. مخرج الفيلم، جوليوس أفيري، وهو معجب بستالون، تحدث عن الأخير مع "توتال فيلم"، وذكر هشاشته وأداءه الذي ما زال مفعماً بالحيوية، فقال: "ما يفعله سلاي في هذا الفيلم يعجز عنه معظم الشبان الذين في عشرينياتهم". كما أن سلاي يستحضر "كينغ شارك"، الرجل آكل السمك وشبه البشري، في فيلم "كتيبة الانتحار" The Suicide Squad لجايمس غان.
في زيارته الأحدث لمهرجان السينما في "كان" سنة 2019، كان ستالون في مزاج حزين مثقل بالحنين. قال للصحافة آنذاك إنه بمطلع مسيرته لم يعتقد أبداً أن بإمكانه امتهان السينما والتمثيل بسبب مشاكله في النطق. وقد قدم صورة عن نفسه تحاكي صورة "تيم الصغير" Tiny Tim، ولد حساس واجه المعاناة والمصاعب، وعومل بازدراء من قبل وكلاء تجارب التمثيل الذين لم يفهموا ما كان يقوله (بسبب مصاعب نطقه).
على أن هذا النجم الذي يتقدم الآن في السن، ما زال بالفعل، في بعض الأحيان، أشبه بولد صغير تائه، فهو استدر كل مشاعر التعاطف الممكنة حين لعب دور "روكي بالبوا" مرة أخرى في أفلام "كريد" Creed الأخيرة، إذ إن بطل أفلام "روكي" الأصلية غداً الآن مسناً و"شخصاً من عالم الأمس"، كما وصف نفسه على ما يذكر الجميع. وهو قام بمتابعة وتمرين الفتى المقاتل، أدونيس كريد (مايكل بي جوردان)، محاولاً في الوقت عينه التعامل مع مشاعر الندم، والفقدان، ومصاعب العمر. وهذا بحق مثل ستالون في حالة خام، حالة مكشوفة وعاطفية. وقد أشار الأمر إلى ما كان يمكن أن يحققه سلاي، لو قام بمجازفات أكبر في خيارات أدواره.
لكن في كل الأحوال يبقى أن ستالون قضى أكثر من أربعة عقود مؤدياً أدوار البطولة في نمط واحد من أفلام الحركة. وفي الصيرورة غدا هذا الفتى الطائش، القادم من حي "هيل كيتشين" (مطبخ الجحيم) النيويوركي، علامة من العلامات الوطنية، وصار صنواً للمثل جون واين ينطق بلكنة الطبقة العاملة والأميركيين من أصل إيطالي. كما أنه لم يعجز عن الصمود أمام جميع أولئك الذين عاصروه، الذين تمتعوا بما حرم منه هو من مظهر جذاب وذكاء. لقد ناهز ستالون الآن الـ75 وما زال قادراً على ركل المؤخرات... أما تلك الهزيمة التي ألحقها به "ليمون" قبل سنوات طويلة، فقد طواها النسيان منذ زمن.
يطلق The Suicide Squad في 30 يوليو 2021. كما يطلق الـSamaritan في وقت لاحق من هذا العام.
© The Independent